بعد طول جمود وتوارٍ فى خضم الصراعات الاقليمية, بطابعها الأهلى والطائفى والمذهبى المشتعلة فى المنطقة من سوريا والعراق إلى ليبيا واليمن, والحرب على الإرهاب, عادت القضية الفلسطينية لتتصدر المشهد, بعد أن وضعها الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب على قائمة أولوياته كجزء رئيسى من تسوية مجمل هذه الصراعات, لنُصبح أمام شرق أوسط جديد, وهو ما تضمنه لقاؤه برئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى واشنطن, الذى أعقبه بفترة قصيرة لقاء آخر جمعه برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس, معلنا فى الحالتين سعيه لحل نهائى للقضية التى أرقت الجميع لمدى يزيد على نصف القرن, والمرجح أنها ستكون على رأس جدول أعماله خلال زيارته المرتقبة الشهر الحالى إلى كل من السعودية وإسرائيل قبل توجهه إلى الفاتيكان, وقد تكون لهذا الاختيار دلالة رمزية باعتباره يجمع بين أقطاب الديانات الثلاث الإسلام واليهودية والمسيحية, أو ربما له علاقة بمستقبل مدينة القدس المتنازع عليها, والتى سبق للرئيس الراحل أنور السادات أن طرح رؤية خاصة لتدويلها وجعلها مجمعا للأديان, وإن لم تلق الفكرة وقتها قبولا يجعلها موضعا لمناقشة جادة. لكن بعيدا عن تلك التأويلات الرمزية, هناك العديد من الشواهد العملية التى تؤكد الاتجاه مجددا نحو القضية الفلسطينية, فكثير من معاهد البحث الأمريكية القريبة من دوائر صناعة القرار باتت تتحدث الآن عما تسميه ب «الصفقة الكبري» أى صفقة تنهى ليس فقط الصراع «الفلسطينى الإسرائيلي» وإنما «العربى الإسرائيلي» برمته ضمن تسويات إقليمية أشمل وأوسع، وفى مقدمتها.. إعلان إدارة ترامب أن ركيزة الاستراتيجية الأمريكية المقبلة ستعتمد فى الأساس على محور السعودية/ مصر/ الأردن, وهى الدول التى لها إما علاقة مباشرة بالصراع أو صاحبة الثقل الأكبر فيه. أن يبدأ رئيس الولاياتالمتحدة زياراته الخارجية عموما والشرق أوسطية تحديدا بالسعودية فهو أمر لا يُعد من قبل الزيارات البروتوكولية. صحيح أن للسعودية دورا مهما فى التحالفات القائمة باسم الحرب على الإرهاب, ولكن هذا لا يقلل من دورها المحورى فى التسويات السياسية لمعظم القضايا الإقليمية, فهى التى أنهت الحرب الأهلية فى لبنان, التى امتدت لما يقرب من الخمسة عشر عاما, باتفاق الطائف الشهير فى 1989 الذى أوجد صيغة توافقية للتعايش بين مختلف الطوائف اللبنانية وفق مبدأ المحاصصة السياسية, قبل أن تتدخل إيران وحليفها السورى لقلب المعادلة على إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى لمصلحة حزب الله, وهى أيضا صاحبة المبادرة العربية للسلام 2002 القائلة بانسحاب إسرائيلى من جميع الأراضى المحتلة مقابل سلام وتطبيع كامل بينها وبين الدول العربية, والأهم أنها القادرة وحدها على توفير أضخم تمويل قادر على إنجاح أي صفقة سياسية. لذلك ليست مصادفة أن يفتح ترامب صفحة جديدة مع الرياض لإعادة التحالف «الأمريكى السعودي» إلى سابق عهده, بعدما اهتز بشدة فى عهد سلفه باراك أوباما, الذى هاجم المملكة والوهابية علنا وأراد ان يوازن بينها وبين طهران بدعوته لاقتسام النفوذ بينهما فى المنطقة. فى هذا السياق جاء الإعلان عن بدء مناورات عسكرية مشتركة بين الجانبين الشهر المقبل إضافة إلى الإفراج عن صفقة سلاح تقدر ب100 مليار دولار كانت قد أوقفت من قبل الإدارة السابقة, وإقليميا أصبح هناك تحد مشترك يجمع الطرفين وهو التصدى للتوسع والنفوذ الإيرانى فى المنطقة. ومن ناحيتها لم تمانع السعودية فى تحمل المزيد من النفقات فى الحرب على الإرهاب, أى «مقابل» التحالف والمظلة الدفاعية الأمريكية, الذى يطلبه ترامب من جميع حلفائه سواء الأوروبيون أو العرب أو غيرهم. وبنفس المنطق والتوقيت تعلن حركة حماس بشكل مفاجئ عن وثيقة جديدة تُعدل فيها بعض بنود ميثاقها الأساسى الصادر فى 1988, لتعلن لأول مرة تأييدها إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وليس فلسطين 1948 أى كامل الأراضى الفلسطينية كما نص الميثاق, ولتمد يدها للسلطة الفلسطينية التى طالما هاجمتها لتوقيعها اتفاقيات أوسلو وقبولها بمفاوضات السلام, ولتؤكد استقلالها تنظيميا عن جماعة الإخوان مع اعترافها فقط بالجذور الفكرية المشتركة التى تربطها بها, وكذلك رفضها لفكرة الوطن البديل فى إشارة إلى سيناء, وهو الموضوع الذى أثار جدلا واسعا فى فترة حكم الاخوان فى مصر. باختصار, وبغض النظر عن الاختلاف حول مدى مصداقية حماس فى التغيير أو كونه مجرد مناورة, فقد أعادت تقديم نفسها للمجتمع الدولي, كحركة سياسية يمكن التعامل معها أو إلحاقها بأي مفاوضات مقبلة على خلاف طابعها الأيديولوجى الجامد القديم والعنف المسلح الذى اتسمت به, والذى بموجبه أدرجتها الولاياتالمتحدة على قوائم التنظيمات الإرهابية. وبالتالى لا يمكن اعتبار هذا التحول محض مصادفة أو أنه يدور فى فراغ دون هدف من ورائه تحدده اللحظة الراهنة. إذن كل الشواهد السابقة إذا تم ربطها ببعضها البعض تشير إلى تحركات ما بخصوص حل القضية الفلسطينية, حتى وإن كانت وراء الكواليس, ولكن السؤال الجوهرى سيبقى حول ماهية هذا الحل ومضمونه, خاصة فى ظل غموض موقف الإدارة الأمريكية من حل الدولتين, وكما قال ترامب فى المؤتمر الصحفى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي, »دولة واحدة« أو«دولتين« فالأمر متروك للمفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, فضلا على عدم تراجعه عن موقفه بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ورفضه اعتبار التوسع فى المستوطنات عقبة فى سبيل تحقيق السلام وأخيرا حرصه على عدم الخوض فى قضايا الحل النهائي, إلا إذا كانت كلها متروكة ل«الصفقة الكبري« التى ما زلنا لا نعرف شيئا عن تفاصيلها. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى;