«ترى من سيأتى على العشاء؟!» كان فيلما أمريكيا فى ستينيات القرن الماضى (1967) عكس حالة العلاقات بين السود والبيض فى ذلك الوقت. كان أبطال الفيلم سيدنى بواتييه وسبنسر تراسى وكاثرين هيبورن وكاثرين هوغتون ومخرجه ستانلى كارمر يحكون قصة الأسود الذى أحب البيضاء وذهب إلى عائلتها الليبرالية التى لا يهمها من حيث المبدأ مسألة الأبيض والأسود هذه لأن «المساواة» هى الأمر الحاكم بين البشر. ومع ذلك فإن الأمر لا يخلو من الحرج، والمسألة دقيقة فى مواجهة الأهل والجيران، كما أن الأمر يحتاج إلى عملية اكتشاف واسعة لأصل وفصل الرجل الذى ظهر أنه تجسيد للعبقرية والمستقبل الباهر. المناخ العام فيه قدر غير قليل من التوتر، ومع استدعاء أسرتى العريس والعروس، فإن قدرا من المقاومة بات حاضرا. القصة انتهت فى النهاية نهاية سعيدة كما انتهت مجموعة قصص أخري، كان «بواتييه» بطلها جميعا، وكلها تحكي، على الأرجح للبيض، أن الأسود يمكنه أن يكون عبقريا أو بطلا أو نبيلا بشكل من الأشكال. كان كل ذلك نوعا من تمهيد «هوليود» لمستقبل العلاقة بين البيض والسود بعد حركة الحقوق المدنية والظهور الباهر لمارتن لوثر كينج الذى انتهى بالاغتيال. بالطبع لا توجد نية هنا لاسترجاع أفلام الستينيات، والقضية الأمريكية الهامة بين البيض والسود وما جرى لها عبر العقود؛ ولكن ما جرى خلال الأسبوع الماضى أن عددا من القنوات التليفزيونية دعتنى للتعليق فيها على الزيارة المزمعة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب. لم يكن هناك الكثير من المعلومات أكثر من نية الرئيس زيارة ثلاث دول: المملكة العربية السعودية، وإسرائيل، والفاتيكان؛ فى إشارة واضحة إلى الرغبة فى التواصل مع ممثلى الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. بشكل ما فإن الزيارة على هذا الشكل تعيد صياغة العلاقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية، وربما الغرب كله، ليس مع إنصار الدين الإسلامى وحده كما فعل الرئيس السابق باراك أوباما من خلال خطاب ألقاه من جامعة القاهرة فى عام 2009؛ وإنما هى إعادة تركيب العلاقة مع الأديان جميعها. الإشكالية هنا أنه لا توجد قضية أو مشكلة فى علاقة لا الولاياتالمتحدة ولا دونالد ترامب لا بالمسيحية ولا باليهودية، بل أن علاقاته باليمين الأمريكى تجعله حريصا على أن يكون فى معسكر «التقاليد المسيحية اليهودية»؛ وفى نفس الوقت، وخلال الحملة الإنتخابية، فإن علاقته بالإسلام قامت على إدراك «الإرهاب الراديكالى الإسلامى»، والرغبة المعلنة فى منع المسلمين من الذهاب إلى الولاياتالمتحدة. إذن فإن زيارة الفاتيكان وإسرائيل سوف تكون من قبيل وصل الوداد، أما زيارة السعودية فإنها هى التى تعبر عن حالة ربما تكون تاريخية فى العلاقات بين أمريكا والعالمين العربى والإسلامي. تاريخية الزيارة قائمة من أن أحدا حتى وقت كتابة هذا المقال يوم الجمعة الماضى لم يكن يعرف من الذى سوف يأتى على العشاء فى الرياض. ما هو معلوم لا يزيد على عقد ثلاث قمم رئاسية، واحدة بين قادة المملكة العربية السعودية والولاياتالمتحدةالأمريكية؛ وأخرى بين ترامب وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، وثالثة بين الرئيس الأمريكى والدول الإسلامية. هذه القمة الأخيرة هى الأكثر غموضا بين القمم الثلاث ليس فقط لأن تحديد من سيأتى إلى الرياض غير معروف، وإنما لأن جدول الأعمال غير محدد. والحقيقة أن ذلك لا يعنى أنه لا يوجد جدول أعمال فمن المرجح أن نوعا ما من التواصل قد جرى مع الدول المعنية. وفى هذه الحالة من المؤتمرات متعددة الأطراف فإن طبيعتها تستلزم نوعا من التحضير الطويل نسبيا، ولذا فإنه من الجائز أن عملية التحضير هذه قد جرت بالفعل خلال زيارات قادة العالم الإسلامى إلى واشنطن خلال الشهور القليلة الماضية. ولكن كل ذلك لن يعفى الموقف فيها من الحرج البالغ، فالضيف القادم إلى العشاء من العاصمة الأمريكية يأتى إلى المائدة مع قدر كبير من الحرج الشخصى الناجم عن الخطوة التى اتخذها بالإطاحة برئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى جيمس كومي. والحرج هنا متعدد الأبعاد، فالمطاح به هو المسئول عن عملية التحقيق فى مدى التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وهو ما يضع شرعية إدارة ترامب فى الميزان. وأكثر من ذلك حرجا أن قرار الإطاحة لم يكن الأول، فقد سبقته الإطاحة بمستشار الأمن القومى مايكل فلين الذى استدعته لجنة المخابرات فى الكونجرس للتحقيق معه فى المدى الذى وصل إليه فى الاتصالات مع السفير الروسى فى واشنطن. الحرج ليس شخصيا فقط، فترامب مدرب على الكثير من لحظات الحرج الشخصية حتى ولو كان هذا الحرج يربط بينه وبين الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون وفضيحته فى ووترجيت (كتبت إلين كامارك فى مؤسسة بروكينجز عن «ترامب يفصل كومي: ظلال ووترجيت»، وكتب ماكس بوت فى دورية السياسة الخارجية عن «روسيا جيت»!). الحرج يأتى من موقفه من قضايا المسلمين والعالم الإسلامى بدءا من قضايا الهجرة وحتى الموقف من الصراع العربى الإسرائيلى ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. ترامب يريد فعلا نوعا من التحالف مع الدول الإسلامية القائدة لكى يتم دحر «داعش» بحيث تحمل القدر الأكبر من العبء العملياتى والمادي. هنا بالفعل توجد مصالح مشتركة، واستراتيجية أيضا، ولكن الحرج يأتى من كل القضايا الأخرى؛ وحينما أتى ترامب إلى المنطقة فإن خطابه فى جامعة القاهرة قدم جردا للكثير من القضايا المعلقة وفى المقدمة منها الصراع العربى الإسرائيلي. هذه المرة فإن قائمة القضايا أكبر، وفيها أن تسليح الأكراد فيه معاداة لتركيا، وربما كان السلاح سببا فى تقسيم سوريا كما بدأ التمهيد له فى العراق، وتحقيق الأمن الإقليمى لا يمكن حدوثه على العشاء ما لم يكن هنا توافق على قضايا محرجة كثيرة!. لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد