لأول مرة فى فرنسا، تم استبعاد الحزبين التقليديين الكبيرين: اليمين الليبرالى واليسار الاشتراكى على السواء فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. وكان الحزب الاشتراكى قد غاب عن المنافسة للمرة الأولى عام 2002 حيث كانت التصفية بين جاك شيراك ممثلة اليمين التقليدى فى مواجهة جان مارى لوبن ممثل اليمين المتطرف.. وبالرغم من هذا التقدم غير المسبوق لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف إلا أنه مني بهزيمة قاسية في الجولة الثانية بفضل تكاتف القوى السياسية ضده وبقي بعدها ولسنوات حزبا ضعيفا لا يمثل تهديدا حقيقيا. واليوم تتكرر المنافسة هذه المرة بين اليمين غير التقليدى واليمين المتطرف مما يرجح تكرار السيناريو نفسه وقد قام كل المرشحين على اختلاف تياراتهم السياسية بين يمين ويسار بالفعل بعد إعلان نتائج الجولة الأولى بمناشدة ناخبيهم الاصطفاف خلف ماكرون لقطع الطريق على اليمين المتطرف، وفى أغلب الأحوال سوف يكون ماكرون رئيس فرنسا القادم. ورغم هذا السيناريو المكرر تظل الانتخابات الأخيرة تحمل الكثير من الدلالات المهمة: فشل اليمين التقليدى فى الاحتفاظ بمرشح له فى الجولة الثانية لأول مرة منذ عصر ديجول. وكان ذلك ربما عقابا من الشعب الفرنسي لمرشحه المتهم بالفساد أو ربما لم يرد الفرنسيون إن يظهروا في صورة المتواطئين على فساد صريح. بالرغم من ذلك يمكن القول أن اليمين التقليدي الذي خرج منه شيراك وساركوزي مازال محتفظاً بنفسه كقوة سياسية مؤثرة. الضربة القاصمة أصابت الحزب الاشتراكى الذى تجاوز رصيده بالكاد 6% وهى حصيلة تنذر باختفاء دوره المؤثر فى المشهد السياسى مرة ثانية. فمنذ سنوات طوال كان الحزب الاشتراكى يتهم بأنه حزب يسارى يقوم بتنفيذ سياسة اليمين، والمتمثلة فى الخصخصة ومساندة البنوك وتعديل القوانين لمنح أرباب العمل اليد الطولى على العمال، بالإضافة إلى الاصطفاف خلف القوى الامبريالية العالمية والتدخل العسكري الصريح في بقاع العالم الملتهبة وتبني الرؤية الأمريكية في هذا الصدد. وجاءت سنوات حكم هولاند تأكيداً لهذا الانحراف اليمينى، وقد حاول أعضاء الحزب مؤخراً تعديل الصورة بأن تفادوا إختيار رئيس الوزراء فالس صاحب الخطاب اليمينى الصريح مرشحاً للرئاسة، واختاروا بدلاً منه بنوا هامون صاحب الخطاب الراديكالى، ولكن بعد فوات الأوان. ذلك لا يعنى انهيار اليسار، لأن ميلانشون جاء فى المركز الثالث بنحو 20% ، وهو مرشح يسارى حر، يطرح خطابا راديكاليا معاديا للرأسمالية والسياسات الليبرالية الجديدة للاتحاد الأوروبي ورؤية إنسانية يسارية للتعامل مع مشكلة الهجرة. ويلتف حول ميلانشون الحزب الشيوعى وحزب الخضر والتروتسكيين واليسار المسيحى وغيرهم، قوى كثيرة اجتمعت لمهمة خوض الانتخابات الرئاسية برؤية ىسارية، ولكن ما أن تنتهى الانتخابات حتى تعود للتفتت ويصبح لكل منها استراتيجياتها الخاصة وتحالفاتها في الانتخابات الجزئية. أما الرئيس المرجح ماكرون، فهو مثير للاهتمام لأكثر من جانب، فهو صغير السن لم يتجاوز الأربعين، وقادم من دائرة رجال المال والبنوك وليس من المجموعات السياسية التقليدية، وهو أيضا يسعى لأن يكون تجسيدا لتيار مبتكر في السياسة يجمع بين اليمين واليسار، كما أن كتلته السياسية »سائرون« قد انطلقت منذ حوالى عام، وبالتالى هى قليلة العدد والخبرة، وسيضطر أثناء رئاسته أن يتعامل مع وزارات وهيئات ومحليات احتلتها القوى السياسية التقليدية من يمين ويسار، وهو مما سيحجم تأثيره فى تجديد المشهد السياسى، فقد يكون فى أحسن الآحوال شخصية سياسية ذات خلفية إقتصادية، مثل فاليرى جيسكار ديستان، لكنها ضعيفة الوزن فى لعبة السياسة الداخلية. باختيار ماكرون رئيساً لفرنسا، وبدراسة خطابه وبرنامجه أثناء الحملة الانتخابية، يبدو أنه لن تحدث تغييرات دالة فى علاقة فرنسا بالاتحاد الأوروبى ولا تقلبات حادة فى التعامل مع مشكلات الأجانب والهجرة، وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، سوف تظل فرنسا فى تخبطها؛ تساند القوى الإسلامية «الديمقراطية» فى سوريا مثل النصرة والجيش السورى الحر وتعانى فى الداخل العمليات الإرهابية التى يقوم بها الشباب الفرنسى العائد من صفوف هذه الجماعات. وسوف تظل تفتح أبوابها للأموال القطرية التى تشترى أندية الكرة وتقوم بتمويل الجمعيات الدينية الإسلامية فى ضواحى باريس. التغيير الوحيد المنتظر، ربما يتعلق بالأوضاع الداخلية الاقتصادية فى تخفيض البطالة، أو رفع الحد الأدنى للأجور حسبما وعد فى برنامجه. انتخابات فرنسا تحمل بالفعل مفاجآت، لكنها ذات ملامح مألوفة.. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث