تجابه الولاياتالمتحدة والرأسمالية أزمة عميقة متعددة الجوانب وهى أزمة يصعب الألمام بأبعادها فأزمات الرأسمالية الكبيرة تكون من العمق والأتساع بحيث يصعب تصورها لمن يحيون وسط أحداثها فلقد آمنت الملايين حول العالم بمناعة النظام السياسى الامريكى وبقدرته الفائقة على تجديد نفسه وهو ما قد يثبت الزمن أنه غير صحيح. الأزمة الامريكية الكبيرة أرتبطت أيضا بمسلسل من حروب لا أخلاقية فى الشرق الاوسط فى إطار سعى الولاياتالمتحدة للحفاظ على هيمنتها وسيادتها فى عالم القطب الواحد. أن تغيراً قد حدث فى أمريكا فهذا مؤكد، وأن زيارة الرئيس المصرى هى أحد ملامحه فهذا واضح، وأن ثبات المصريين أحد أسبابه فهذا أيضاً مما لا يحتاج إلى بيان! فالتغير فى خطاب الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن سورياوروسيا ومصر يتم رغم انقسامات أمريكية واضحة. وهى تغيرات تجابه مقاومة داخلية وخارجية من أصحاب مشروع إسقاط سوريا، فلقد كانت تلك هى الرقعة الأخيرة -وربما الأهم- فى مشروع الفوضى الخلاقة؛ فبها وبجنباتها صواريخ حزب الله، التى اعتبرها البعض هدفاً لابد من إزاحته بحرب بالوكالة. هناك فى الولاياتالمتحدة من أيقن أن هذا المشروع فشل، وأن نتائجه المأساوية تستدعى تغييراً كبيراً. فالمشروع استند على الترويج والتلاعب بنتائج عقيدة جهادية قتالية حول العالم، ووسط المجتمعات الإسلامية من الجمهوريات الإسلامية فى أسيا إلى جاليات أوروبا المسلمة إلى الولاياتالمتحدة ذاتها. تداعيات هذا البرنامج الجهادى الهجين العقيم صارت خطرا حقيقيا لا يمكن التكهن بنتائجه وابعاده فأرتال المرتزقه المسلمين صار لهم آلية ذاتية الحركة معتمة التكوين وصارت عبئاً عالمياً لا يمكن قبوله او مواجهته الا بجهد دولى كبير. كان من الطبيعى أن تقاوم قوى وشعوب عديدة هذا المشروع الشرير ولهذا فلقد عجز عن فرض إرادته ورؤيته فى مصر وسوريه واوكرانيا. وهكذا ففى خضم الصراع ظهر تناغم تلقائى بين مصر وسورياوروسيا. حلف تكون تلقائياً فى مواجهة مشروع أمريكى يبدو أن أمريكا ذاتها مجبرة أن تتراجع عنه أو تغير آلياته، بل وها هو رئيسها يتشكك فى جدوى الشعارات الامريكية المعتادة بشأن العداء لروسيا ذاتها. هذا التشكك فى جدوى العداء لروسيا يذكر المرء بما قاله كيسنجر بشأن جورباتشوف فلقد وصفه بأن مواقفه الغريبة لا يشبهها إلا مواقف بابا الفاتيكان إذا أعرب عن تشككه فى وجود المسيح ذاته! وهو ما يعنى انهيار الكنيسة ذاتها، وهو ما حدث مع الاشتراكية ومع الاتحاد السوفيتي. فهل تتوازى تصريحات ترامب مع تصريحات جورباتشوف منذ عقدين من الزمان؟ وهل تترنح مؤسسات الولاياتالمتحدة؟ أو بالأحرى هل يصمد ترامب ذاته فى وجه عاصفة المؤسسات الأمريكية ذاتها؟. التغير الأمريكى كما ندركه يتضمن ملامح نعرفها؛ فالإدارة الجديدة تتنصل من نهج من سبقوها، فتناصب الإسلام السياسى العداء، وتنأى عنه بعد أن تبنته الإدارات السابقة. فلقد صارت التكلفة السياسية للاستناد على الإسلام السياسى باهظة، وتحول إلى فضيحة خطيرة بما اقترفوه من ذبح وقنص وخوض فى بحر الدماء. والإدارة الأمريكية الجديدة - حتى الآن. وربما للمرة الأولى فى تاريخ الولاياتالمتحدة - الإعلام الأمريكى والصحافة الأمريكية العداء. فلقد كان هؤلاء الصحفيون والإعلاميون هم من أطلقوا ستاراً كثيفاً من دخان الأكاذيب الإعلامية عن الحريات والليبرالية تستتر بِه قوى الإسلام السياسى وتلتحف به، بينما هى ذاتها أشد القوى رجعية ومعاداة للمساواة وحقوق الإنسان. وتحاول الإدارة الأمريكية الجديدة أن تنسحب أو تتعامل مع هزيمة سياسية وفضيحة أخلاقية فى سوريا. فضيحة وهزيمة قد تكون لها تداعيات قانونية لذلك فهى تنأى بنفسها وبأمريكا ذاتها عن المرتزقة المسلمين، وربما تود أن ترتب انسحابا يحفظ ماء الوجه لها فى الشرق والعالم. ويبقى السؤال: إلى أى مدىً ستستطيع إدارة ترامب تلافى طبول الحرب التى يقرعها قطاعات أمريكية ترفض التراجع وهم من يطلق عليهم الصقور الأمريكان؟ بل وهل يستطيع مواجهة المؤامرات التى تدبرها أطراف نافذة خارج الولاياتالمتحدة لدفعها دفعاً لإيقاف التغيير فى نهجها بشأن سوريا؟ فمنذ أيام وأثناء زيارة الرئيس السيسى أطلق غاز السارين فى سوريا فى إدلب. وعلى الفور انطلقت منظومة الإعلام تتهم بشار الأسد بالجريمة. وتشير الدلائل الأولى إلى أن الإدارة الجديدة تجاوزت ذلك الكمين كما حدث فى عهد أوباما ذاته. هذا هو ما بعض ما نعرفه عن التغيرات الأمريكية، أما ما نتجاهله فهو متعدد! فنحن نتجاهل أننا لسنا وحدنا من صنع تلك التغيرات، بل وأنه لولا الحلف الصينى الروسى ما كان من الممكن أن تتهاوى الإرادة الأمريكية. فقد استطاعت روسيا أن تحول الصراع الدائر فى الشرق الأوسط إلى صراعٍ يضرب كل شروخ البنيان الغربي، ويفضح سقطاته وادعاءاته فى مجال حقوق الإنسان. نتجاهل هذا لأن لدينا قطاعاً ضخماً من رجال الأعمال وطبقة متكاملة تقتات الحلم الأمريكى وتتصور أن أمريكا وشعاراتها ومشاريعها ستعود رغم الأزمة الاقتصادية العارمة التى تضرب عواصم الغرب. تلك الطبقة واسعة التأثير هى سبب تجاهل أهمية العلاقات المصرية الروسية، وإحاطتها بتشكك تاريخى يقتات دعايات عصر السادات بشأن روسيا. نحن أيضا نتجاهل أن روسيا معرضة لأخطارٍ جسامٍ. فمن غرائب السياسة المصرية أن يعتقد البعض أن روسيا تبتز مصر بتعطيل عودة السياحة إليها رغم أن مصر (استجابت لطلباتهم فى تعزيز إجراءات الأمان فى المطارات). وكأنما ازدياد إجراءات الأمان فى مطارات مصر هى مجرد استجابة لطلب مجحف غير ضرورى من دولة أخرى لم تتعرض لأذىً حقيقى وفقدت 200 إنسانٍ فى حادث شرم الشيخ. وكأنما مصر مكان آمن لا يواجه الإرهاب على كل حدوده. نتجاهل أيضاً أن عودة السياحة الروسية لمصر قد تكون خطراً عليهم أياً كان الأمر، طالما أن السياح الإنجليز لم يعودوا هم أيضاً. فالسياح الروس مستهدفون أكثر من أى سياح يأتون إلى مصر كهدف سهل ودماؤهم إن أريقت على الأراضى المصرية فهى جائزة مضاعفة. فثمن أى دم روسى على الأراضى المصرية سيكون ضربة للعلاقات المصرية الروسية ولقيادات مصر وروسيا. والمعركة مع روسيا معركة كبيرة، فمنذ أيام تفجرت القنابل فى مترو بتروجراد، وقتلت مواطنين روسا ينتقلون بين أركان مدينتهم. ذهب الرئيس السيسى إلى الولاياتالمتحدة قبل حسم وتوقيع وثائق مشروع الضبعة النووي، وهو أمر مهم أيضاً وقد يزداد تعقيداً مع عودة الدفء إلى العلاقات المصرية الأمريكية. وهناك فى مصر من يضغطون بشدة ويقفون ضد المشروع لأسباب غير مفهومة، فشروط المشروع المالية والمصرفية مثالية، وهو ليس فقط دلالة مهمة على استقلال الإرادة السياسية المصرية بل هو أيضاً أحد ظواهر تنوع العلاقات المصرية الإستراتيجية، وقد يكون ضمانة لتنوعها فى المستقبل. الأزمة المحيطة بالعالم وتداعياتها الدموية والاقتصادية دفعت قطاعاً فى الإدارة الأمريكية للسعى إلى التراجع عن مشروع كبير. لكن التغير الحاد فى مسار السياسة الأمريكية إن تم فسيكون معبراً عن هزيمة إستراتيجية كبيرة، وعليه فإن الصراعات الأمريكية ستكون حادة، فعلينا أن نتمسك بالثوابت المصرية وبصدق العلاقات مع حلفائنا الذين أتوا لمساعدتنا فى أوقات الضيق. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;