«الإنتلجنسيا» تعنى «النخبة المثقفة»، وهى كلمة مأخوذة من اللاتينية (intellegentia)، وهى روسية الأصل، وتشير معظم المراجع إلى أن الكلمة «intellegents» استخدمت لأول مرة منتصف القرن التاسع عشر ، لوصف النُخب الصغيرة ذات الثقافة النامية، والتى تلقت تعليماً جامعياً على الطراز الأوروبي، وتعد تعريفا لطبقة اجتماعية تشارك فى عمل ذهنى معقد يهدف للتوجيه والنقد، أو لعب دور قيادى فى تشكيل المجتمع وسياسته، واستعار «هيجل» المصطلح فى أربعينيات القرن التاسع عشر لوصف فئة متعلمة ومهنية من البرجوازيين الوطنيين الذين أصبحوا قادة روحانيين فى بلد خاضع لقوى أجنبية . ويرى الكاتب الأمريكى «شيلز » إن المثقفين هم أكثر النخب أهمية فى البلدان النامية، ويرى الكاتب «جون كاوتسكي» أن المثقفين هم أولئك الذين تزعموا الجهود لتأسيس شعوب حديثة، وهم أصحاب الأفكار المنفتحين للمعرفة الجديدة لإيجاد نظام اجتماعى وسياسى جديد لهم ولاتباعهم، وهم المسئولون عن إيجاد وتوضيح الأيدلوجيا التى تكون الركن الحاسم فى خلق الدولة القومية . وإذا طبقنا المصطلح على قارة أفريقيا، وقادة حركات التحرر فى تلك القارة التى عانى مواطنوها التكالب الدولى على كل شبر فيها، سنجد أن «الانتلجينسيا» الأفريقية هى من أخذت على عاتقها تحرير القارة من براثن الاحتلال . وشهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، زيادة فى عدد المثقفين الأفريقيين. فقد قام الأفريقيون بجهود بطولية لتوفير التعليم لأنفسهم، بل كانوا يقيمون مدارسهم الخاصة لسد النقص المرعب فى التعليم الرسمى الذى يقدم للأفريقيين، فكم من أم أفريقية كدحت كالرقيق من الصباح إلى المساء، بأداء أعمال منزلية، وغسل الملابس، وصنع وبيع بعض المشروبات المحلية، فقط لتكسب شيئا من النقود توفر به لابن لها قدرا من التعليم. وعمل «كوامى نكروما» بغسل الأطباق فى الولاياتالمتحدة ليستطيع إتمام تعليمه، ومشى دكتور «هاستنجزباندا» مئات الأميال عندما كان شابا من وطنه نياسالاند، سعيا وراء التعليم فى اتحاد جنوب أفريقيا، وبعد ذلك لاستكمال تعليمه فيما وراء البحار . وكم من زعيم أفريقى يمكنه أن يروى قصصا مماثلة . وفى السنوات العشرين الماضية تأسست منظمات ثقافية وصدرت صحف وطنية،كما أنشيء عدد من معاهد التعليم العالى فى عدد من المناطق الأفريقية، وأسفر ذلك بدوره عن زيادة عدد المثقفين الأفريقيين. وكان من المحتم بطبيعة الحال أن يلعب الاستعماريون دورا معينا فى اقامة التعليم العالي، بأمل تشجيع قطاع من الأفريقيين المتعلمين المسئولين ليضطلعوا بدور الحلفاء السياسيين، بيد أن هذا التعليم كان لقلة قليلة فقط، وكان هدفه إنتاج صورة فوتوغرافية لأصل أوروبي، بدلا من المساعدة على التقدم الثقافى للأفريقيين أنفسهم. لقد كان لدى الإدارة البريطانية على سبيل المثال فى مستعمراتها الأفريقية طريقة واثقة لمنح مثل هذه المعاملة الخاصة للأفريقى المتعلم،بحيث تفصل بينه وبين الجمهور، لكن على العكس من ذلك وجدنا تطابق تدريجى بين المثقف الأفريقى (خاصة فى جنوب ووسط أفريقيا،حيث اقترنت سيطرة المستوطنيين البيض بأقصى درجات التمييز العنصري) وبين الجماهير الأفريقية والنضال من أجل الاستقلال الوطنى والتقدم القومى .لقد كان على المثقف الأفريقى أن يزيل أية عقبات تنال من كرامته، ويكيف نفسه للاندماج مع الجماهير ، وربما يتعرض للتنكيل أو الإبعاد أو يفرض عليه الحظر ، أو تحديد إقامته فى بلدته حتى يتخلى عن نضاله، وذلك لأن الاستعمار بطريقته الخاصة يضغط على المثقف الأفريقى بالقدر نفسه من العنف الذى يضغط به على العامل والفلاح وعلى المزارع الأفريقى والرأسمالى الأفريقي. ويؤكد الكاتب «جاك دويس» فى كتابه «جذور الثورة الأفريقية» فى مقالة عن ال «إنتلجنسيا» الأفريقية وهو يتحدث عن المستوطنيين البيض حيث تتماثل مشكلات التعايش بين السود والبيض فى معظم المجالات يقول «إن المستوطن الأبيض يخشى الأفريقى المتعلم ويقاومه، ويبحث عن طريقه لإذلاله والحط من شأنه، ولينكر عليه الأشياء التى جعله التعليم يتطلع إليها، وهكذا فى جماعة متعددة العناصر لايستطيع الرجل الأسود أن يتخذ له مهنة كصانع مدرب أو طبيب أسنان أو صيدلي، لأنه لا القانون ولا النقابات البيضاء تسمح بذلك ،ويقول «مفاليله» إن المثقف الافريقى او المهنى الافريقى يتحول فى مثل تلك الظروف الى دمية ويحرم من الاعتراض على القيود المهنية المفروضة عليه»، إن الأفريقى المدرب الذى يحمل وراءه سنوات كثيرة من الخبرة، كثيرا ما يرى رجلا ابيض حديث الخدمة عديم التجربة، يسبقه كثيرا فى الدرجة الوظيفية ويتقاضى اضعاف مرتبه، ولذلك يعد النضال من أجل أفرقة الادارات الحكومية فى غانا ونيجيريا والسودان وفى مناطق اخرى قصة طويلة من قصص المقاومة العنيدة ضد العنصرية . وهكذا يكون المثقف الأفريقى واقعا تحت وطأة تأثيرين متعارضين،فمن ناحية يحاول الامبرياليون اغراءه بمنحه بعض الامتيازات المحدودة وقتل كبرياءه الوطني،من خلال عملية خبيثة ومتعمدة قوامها القضاء على طابعه الأفريقى وصبغه بالصبغه الغربية ،ومن الناحية الأخرى يجد الأفريقى مطامحه هو وشعبه تتعرض بصورة دائمة للمقاومة والاحباط بسبب رغبة المستعمر والمستوطن الأبيض فى الاستئثار بكل المزايا، فى تلك اللحظة يدرك المثقف الأفريقى أنه لن يخطو الى الأمام مادام الاستعمار والحكم الامبريالى جاثمين على صدر بلاده. إن تأثير المثقف الافريقى مهم للغاية ولا يوجد حزب سياسى وطنى واحد ،من أحزاب الشعب الأفريقى فى أى منطقة أفريقية لا يلعب فيه المثقفون دورا بالغ الدلالة،إن لم يكن دور القائد وما على المرء إلا أن يذكر أسماء بعض الشخصيات الوطنية البارزة فى أفريقيا دكتور نكروما،دكتور باندا،دكتور كيانو ، دكتور مومي، جوليوس نيريري، جومو كنياتا، كينيث كاوندا،ليوبولد سنجور . ولا تزال القارة الافريقية تزخر بالكثير من المثقفين.