على مدى سنوات طويلة تراكم لدينا ما يمكن تسميته بخطاب تطوير التعليم. لكن المفارقة أن هذا الخطاب نفسه أصبح ينطوى على عدة مغالطات. راجت هذه المغالطات فى الآونة الأخيرة عبر تصريحات بعض المسئولين فبدت مثل إلقاء الكلام على عواهنه. وهو أمر لا يليق بخطاب يُفترض أنه يؤسس لتطوير نظامٍ تعليمى يمثل المدخل الصحيح والوحيد للحاق بحركة العصر الذى نعيشه لكننا نقبع فى هوامشه. أولى المغالطات المتداولة أن مجانية التعليم فى عهد عبد الناصرهى السبب فيما آل إليه واقع التعليم اليوم من تراجع وتدهور.مقولة مجانية التعليم ذاتها تحتاج ابتداء إلى المراجعة والتصويب. فالزعم بأن التعليم فى مصر اليوم هو تعليمٌ مجانى أمرٌ يخالف الواقع ليس فقط بسبب ما يدفعه المصريون لأبنائهم مقابل الدروس الخصوصية التى (يتعاطاها) كل الطلاب تقريباً بمن فيهم المتفوقون، وليس فقط بسبب ما يدفعه الطلاب من مقابل مادى لشراء الكتب الخارجية الخاصة وما يُعرف بالمذكرات والملخصات بديلاً عن كتب مدرسية حكومية تتجاوز كلفتها سنوياً المليار جنيه مصرى تذهب سُدى.. ولكن أيضاً لأن التعليم غير الحكومى آخذ فى التمدد والانتشار تحت تسميات ولافتات شتى من تعليم خاص وأجنبى ودولي. وهو تعليمٌ بمقابل مالى يصل أحياناً إلى أرقام هائلة. والأخطر أن هذا التعليم الخاص لم يعد يستقبل أبناء الطبقات الثرية فقط بل أصبح بسبب تدنى مستوى التعليم الحكومى مقصداً لأبناء الأسر المتوسطة والمتواضعة التى تقتطع من لحم الحى كما يُقال لكى تدفع سنوياً حفنة آلاف من الجنيهات مقابل تعليم أبنائها. هل يعلم الذين يُصرون على أن التعليم اليوم مجانى أن التعليم قبل الابتدائى (الخاص) فى رياض الأطفال يمثل 32% من التعليم الحكومي؟ وأن نسبة التعليم الثانونى العام (الخاص والأزهري) تمثل 37% من نسبة التعليم الثانوى العام الحكومي؟ (الأرقام مأخوذة عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء) هل يعلم هؤلاء أنه بحسب دراسة للدكتورة مُحيا زيتون إحدى أبرز خبيرات اقتصاديات التعليم فى مصر والعالم العربى فإن 47% من طلاب التعليم العالى يتحملون فى واقع الأمر نفقات تعليمهم؟ هذا يعنى أن تعليمنا اليوم على ما به من تدهور لم يعد فى واقع الأمر تعليماً مجانياً فيما كان التعليم فى الحقبة الناصرية أفضل حالاً بكثير مع أنه كان تعليماً مجانياً بحق. ففى هذه الحقبة لم تُعرف على الأقل ظاهرة الدروس الخصوصية كتعليم مواز وبديل بكل معنى الكلمة. وقد رحل عبدالناصر فى وقت كانت مدارس مصر تعرف الأنشطة المدرسية، وكان للتعليم قيمه المعرفية والوطنية لا التجارية والمبتذلة، ولم يكن الفساد التعليمى قد أنتج جماعات للمصالح تجهض أى مشروع للإصلاح بل وتعبث بحياة التلاميذ وصحتهم كما فى حوادث التسمم الحاصلة هذه الأيام. وفى زمن عبدالناصر لم يكن هناك وزراء للتربية والتعليم يخطئون هجائياً ويعجزون عن الكتابة والتعبير. حسناً سيقول البعض إن وزيراً للتعليم مثل حلمى مراد وغيره كانوا نتاجاً للحقبة الليبرالية السابقة على ثورة يوليو 1952، وهذا بالفعل صحيحٌ تاريخياً. لكن الصحيح أيضاً أن عبد الناصر يوم أن رحل كان تعليمنا بخير (اقرأوا ما قاله الراحل أحمد زويل)، ولم تكن المقررات الدراسية تُشرح فى مراكز الدروس الخصوصية على إيقاعات الطبلة و«الصاجات» ورقصات التنورة كما نرى اليوم. لم يكن هناك طلاب يحصلون على 99.9% فى الثانوية العامة فيما يثير سخرية العالم من حولنا. ولم يكن هناك طلاب جامعات ينجحون بالحصول على درجتين نعم درجتين فقط من عشرين، وآخرون يحصلون على 23 نعم 23 درجة من عشرين فى جامعة كان رئيسها يوماً طه حسين. المغالطة الثانية وردت على لسان وزير التربية والتعليم نفسه حين قال مؤخراً إن التعليم سلعة. إذا كانت لغته لم تسعفه باختيار اللفظ الأدق للتعبير عن العلاقة بين الخدمة التعليمية والإنفاق المادى فهذه مصيبة، أما إذا كان يقصد حقاً ما قاله فالمصيبة أعظم. خطيرٌ يا ناس ألا ندرك معنى ومغزى دور الدولة فى أداء إحدى وظائفها الأساسية كالتعليم مثل الدفاع والأمن فى مجتمع لم يستكمل بعد مقوّمات تقدمه المعرفى والثقافى والتى بسبب ضعفها ظهر التطرف والإرهاب وتدنت معايير الجودة والإتقان فى كل المهن تقريباً. والأخطر فى مقولة إن التعليم سلعة أنها تعنى أن كل ما نص عليه الدستور الحالى من التزام الدولة بإتاحة التعليم الجيد لجميع أبنائها وكفالة مبدأ تكافؤ الفرص أصبح لغواً بلا معنى. والأغرب فى المقولة أن تصدر عن المسئول الأول عن التعليم فى الدولة ولم تصدر مثلاً عن خبير تعليمى يُعبّرعن وجهة نظره فقط. كان بوسعنا القول مثلاً إن التعليم خدمة تتطلب جودتها قدراً من الإنفاق لكن مقولة «التعليم سلعة» لا تعنى سوى تسليع الخدمة التعليمية وتوافرها فقط للقادرين على دفع تكلفتها مثل أى سلعة أخرى فى السوق. أمرٌ خطير أن يصبح التعليم لدى البعض «سوقا». كان أجدى بدلاً من طرح خطاب «تسليع» التعليم الانشغال بقضية «التعليم وسوق العمل». فهذه هى القضية الأهم فى نظامنا التعليمى فيما توجبه من إحداث ثورة حقيقية فى التعليم الفنى جنباً إلى جنب مع تطوير كل عناصر منظومة التعليم الجامعي. المغالطة الثالثة ترتبط بما سبقها وهى مغالطة رائجة تختزل مشكلة تطوير التعليم فى مصر فى نقص الموارد والإمكانات المادية. وابتداء فإن زيادة الإنفاق على التعليم أمرٌ لا يُتصوّر الخلاف عليه. لكن هناك العديد من أوجه الخلل التى يمكن معالجتها دون أن يتوقف الأمر بالضرورة على توافر موارد وإمكانات هائلة. فهل تحديث مضامين المناهج التعليمية وهى أحد مظاهر الأزمة يحتاج إلى موارد مالية تتجاوز قدرات الدولة؟ التساؤل ضرورى لأننا نتحدث منذ عقود عن تحديث المناهج والمقررات التعليمية وما زال الإنجاز أقل من المطلوب بكثير. وهل تحتاج عملية تطوير نظم الامتحانات والتقويم إلى أموال تعجز عنها الموازنة العامة؟ التساؤل ملحٌ لأن نظم الامتحانات التقليدية (العصروسطية) التى تقيس القدرة على الحفظ هى أحد أسباب انتشار ظاهرة تسريب أسئلة الامتحانات فضلاً عن مساوئها الأخرى. هل تطوير النظام الحالى للقبول فى الجامعات والذى يحول دون ربط التعليم بسوق العمل من ناحية ويحول أيضاً دون حسن توظيف قدرات الطلاب ومواهبهم فى التخصصات المناسبة لهم يتطلب مليارات تنوء بها إمكانات الدولة؟ غير صحيح بالطبع. فقد نجحت دولة مثل «جورجيا» فى تطوير نظام القبول فى جامعاتها بديلاً عن هذا الُمسمّى بمكتب التنسيق فى تجربةتستحق الدراسة. باختصار ثمة إصلاحات تعليمية عميقة وممكنةلا تتطلب إنفاقاً كبيراً بل إرادة إصلاحية. مثل هذه المغالطات وغيرها تعقّد خطاب تطوير التعليم. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;