عندما يزور المرء مصر يشعر بالدور المهم الذى لعبته الزراعة فى بناء الحضارة فى الماضى وفى الحاضر. قبل آلاف السنين، طورت مصر العديد من الاستخدامات الذكية للنيل المعطاء الغنى بالمواد المغذية، لأغراض الري. وزرع سكانها القمح على مساحات واسعة، وليس ذلك فحسب بل زرعوا ورق البردى الذى كان يستخدم للكتابة كما يستخدم الورق فى أيامنا هذه. ولاحقاً استخدمت صوامع الحبوب فى مصر كسلة خبز للإمبراطورية الرومانية. ولكن فى الوقت الحالى فإن النقص المتزايد فى المياه يشكل تحدياً غير مسبوق لهذا الإرث، ليس فقط فى مصر ولكن فى جميع دول الشرق الأدنى وشمال إفريقيا. لقد انخفضت موارد المياه العذبة فى المنطقة بمقدار الثلثين فى السنوات الأربعين الأخيرة. وهذه الحقيقة لوحدها تمثل تحدياً للأبعاد الثلاثة للاستدامة. إن الإدارة المحسنة للمياه تعد أمراً فى غاية الأهمية اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً. تعرّض تأثيرات التغير المناخى على سبيل المثال للخطر بعضاً من أكثر الأراضى خصوبة فى دلتا النيل. فقد أظهرت دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أخيرا أن ارتفاع درجات الحرارة قد يتسبب فى تقصير مواسم الزراعة بعدة أسابيع وفى خفض المحاصيل الزراعية بنسبة 27 % أخرى لتصل إلى 55 % بنهاية القرن الحالي. ولذلك فإنه من الإلزامى تشجيع أنظمة الإنتاج الزراعى التى تستهلك قدراً أقل من المياه وتكون أكثر قدرة على مقاومة تأثيرات التغير المناخي. كما يجب تغيير منظومات الأغذية ومواءمتها بحيث تصبح أكثر فعالية واستدامة وشمولية. وهذه من بين أهم أهداف مبادرة الفاو الإقليمية لندرة المياه التى تستند إلى تحديد السياسات وأفضل الممارسات فى إدارة المياه فى الزراعة. وتحرز هذه المبادرة بالفعل تقدماً فى المنطقة الأوسع من خلال دعم لامركزية حوكمة المياه الجوفية فى اليمن والمغرب، والحصاد المائى فى الأردن، واستخدام الطرق المبتكرة لحساب صرف المياه وتعزيز الاستعدادات لمواجهة الجفاف فى لبنان وتونس. كما تم ادخال ضخ المياه بالطاقة الشمسية فى مصر. إن الماء كان ولايزال دائماً مورداً ثميناً يعد غيابه من أكبر مصادر القلق فى القرن المقبل. ويتعين أن تتحمل الزراعة العبء الأكبر فى التعديلات المطلوبة لأنها تستخدم ما يصل إلى 70% من المياه العذبة فى العالم اليوم، كما أنه ومن خلال الاستخدام المفرط لمضادات الحشرات والكيميائيات غالبا ما تلوث الزراعة المياه التى تستخدمها. إن الصحة والنظافة البشرية، وإنتاج الغذاء، وخصوبة التربة تعتمد على الاستجابات المنسقة للتعامل مع ندرة المياه. ولهذا السبب فقد أطلقت الفاو وشركاؤها «الإطار العالمى للعمل من أجل مواجهة ندرة المياه» خلال مؤتمر الأممالمتحدة للمناخ الذى عقد فى المغرب فى نوفمبر الماضي. يحتاج عدد أكبر من الناس المياه لأغراض متزايدة، وكل قطرة ماء مهدرة تهدد بأن تؤدى إلى نقص إنتاج الغذاء وانخفاض النمو الاقتصادى وتزايد البطالة، وهو ما يجعل محاربة الفقر أكثر صعوبة ويؤدى إلى مزيد من الهجرة. وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن 663 مليون شخص فى العالم اليوم، يعيش 80 فى المائة منهم فى مناطق ريفية، يفتقرون إلى موارد مياه الشرب المحسنة. وتتزايد هذه التحديات بشكل أكبر فى منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا. ونظراً لأن هذه المنطقة تشهد حالياً أكبر الأزمات الإنسانية فى عصرنا الحالي، ونظراً لأن 60 فى المائة من مياه المنطقة العذبة تقطع حدود بلدان تلك المنطقة، فإن السلام والاستقرار غير مضمونين ويتطلبان استثماراً فيهما. التغييرات المطلوبة ستكون كبيرة وشاملة وذات أثر على العرض والطلب معاً. وبالنسبة لمصر فإن هذا يعنى تغيير خيارات المحاصيل والتغذية. والأمر الرئيسى هنا هو أنه لا مجال لتضييع الوقت أو لهدر الماء. ويجب النظر فى مسألة زراعة القمح بشكل جاد، إذ إن الأبحاث تبين أن 400 لتر من المياه يتم اهدارها لكل واحد كيلوجرام من القمح يتم انتاجه. الأسر الريفية، وخاصة المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة، هم الأكثر عرضة للمخاطر والأعباء التى ستترتب على هذه التغييرات. وهم بالتالى يحتاجون إلى مساعدات فنية ومالية طارئة ليكونوا قادرين على التكيف مع التغير المناخي. إن صياغة سياسات تهدف إلى خدمتهم وفائدتهم هو أمر فى مصلحة الجميع. وبهذه الطريقة فقط سيتمكن المجتمع الدولى من تحقيق أهداف التنمية المستدامة خاصة الهدفين الأول والثانى وهما القضاء على الفقر الشديد والجوع بحلول عام 2030. لمزيد من مقالات جوزيه غرازيانودا سيلفا