الأحاديث الدائرة منذ فترة حول تعديل قانون الإجراءات الجنائية مهمةٌ ومطلوبة لكنها تثير تساؤلات مشروعة. ما هُوية هذه التعديلات والهدف من ورائها؟ وهل تعكس قدر الطموح التشريعي اللائق بدولة النموذج القانوني والقضائي الأقدم في المنطقة؟ ثم- وهذا هو الأهم- ما موقفنا من القضية الأكبر، أصل القضايا كلها، وهي تحديث نظام العدالة على الأرض؟ هذه وغيرها أسئلةٌ جديرةٌ بالنقاش.يميل المتخصصون عادة في مناقشة قضية العدالة إلى الرؤىالقانونية فيما يبدو المعيار الوحيد لتقييم العدالة لدى الناس هو “الثقة” فيها و” الإحساس” بها، وهو معيار لا يكذب وبه يجب أن تُقاس نجاعة التشريعات. أكتفي هنا- لمقتضيات المساحة- بمناقشة الملاحظات التالية والتي لا تمس بحالٍ الجهد المبذول من قامات قضائية وخبرات علمية رفيعة. الملاحظة الأولى- وتتعلق بهوية التعديلات وقدر الطموح التشريعي فيها. هل نريد إصدار قانون (جديد) حقاً للإجراءات الجنائية أم أن الأمر لن يتجاوز حسبما يُستفاد من بعض التصريحات مجرد إجراء تعديلات جزئية لبعض النصوص المتفرقة هنا أو هناك. مضطرٌ هنا لأن أسجل أنه كان لدينا في مصر قبل تعديلات العام 1953 قانون تحقيق الجنايات الذي حلً محله قانون الإجراءات الجنائية ، وكان قانوناً تقدمياً يضاهي القانون الأم نفسه المأخوذ عنه وهو القانون الفرنسي. وكان هذا القانون هو الأنموذج والرائد في المنطقة العربية، أما اليوم فبعض تشريعاتنا تبدو من المرتبة الثانية في محيطها العربي. إصدار قانون جديد للإجراءات الجنائية وليس إجراء بعض التعديلات هو أمر يتيح أيضاً التخلص من ظاهر الازدواجية وعدم الاتساق التشريعي وشبهة مخالفة الدستور التي لا تخلو منها نصوص القانون الحالي. ما زال لدينا حتى اليوم نصوص تستخدم عدة مترادفات للتعبير عن نفس المفهوم القانوني، وهو أمر يُنزه عنه المشرع الذي يجب أن يكون مثالاً في الدقة، ومازالت نصوصنا تستخدم وصف “الحكم النهائي” تعبيراً عن “الحكم البات” برغم الفارق بينهما، وحتى التبويب التشريعي ومنهجية الصياغة لم تعد في القانون الحالي مواكبةً لما لحق علم الصياغة التشريعية من تطوّر. كل هذا وغيره يجعل إصدار قانون (جديد) للإجراءات الجنائية طموحاً مستحقاً وضرورة تشريعية. الملاحظة الثانية- وهي لا تخلو من حساسية توجب المصارحة. هل يقتصر الهدف الحقيقي من التعديلات التشريعية على تحقيق العدالة الناجزة والتي تعني لدى الكثيرين سرعة الفصل في القضايا أم أن الهدف يشمل أيضاً معالجة التوفيق الصعب والمنشود بين ضرورات أمن المجتمع وفاعلية العدالة من ناحية ومتطلبات حماية الحقوق والحريات الفردية من ناحية أخرى؟ هذا هو السؤال/ المعيار الذي به تتحّدد به درجة رشادة أي نظام قانوني للعدالة الجنائية.ولكي نتعرّف على “هوية” التعديلات التشريعية المطروحة فإننا مضطرون للتساؤل حول الموقف من (تدبير) الحبس الاحتياطي الذي تحوّل إلى (عقوبة) بكل معنى الكلمة. وماذا أيضاً عن حزمة التشريعات الجنائية الأخيرة التي أصبحت تمثل عبئاً يجب التخفف منه قبل القول إننا بصدد قانون إجراءات جنائية جديد وعصري. المثير للقلق هو ما صدر من تصريحات بشأن بعض التعديلات التي تمثل مشكلةً بأكثر مما تُقدّم حلاً. مثال ذلك مسألة ترك استدعاء الشهود وهو حقُ أصيل لا يكتمل الدفاع إلا به لمطلق تقدير المحكمة بهدف تفادي إطالة أمد التقاضي وتعطيل الإجراءات.هذا هدفٌ فوق الاختلاف لكن تحقيقه ممكن وميسور بضبط نظام حق سماع الشهود بوسائل شتىلا سيّما وأن رفض المحكمة طلب سماع شاهد إعمالاً لسلطتهاالمقترحة سيوقع محكمة النقض في حرج لن تملك معه سوى الحكم بإلغاء الأحكام الصادرة في دعاوى لم يُكفل فيها للمتهم هذا الحق، ثم أنه قد سبق لمجلس الدولة أن اعترض على هذا المقترح التشريعي. والمقلق أيضاً هو ما صدر مؤخراً من تصريحات تتحدث عن جواز إلغاء مثول “شهود الإثبات” أمام المحكمة والاكتفاء بشهاداتهم الكتابية التي يتلوها أحد أعضاء المحكمة. واردٌ أن توجد ضرورة أو مبرر للاكتفاء بشهادة كتابية لكن تكريس وتعميم الاستغناء عن مثول شاهد الاثبات لإمكان مناقشته من قبل الخصوم ولو في قضايا الإرهاب فقط أمرٌ يخالف مبدأ المجابهة . الملاحظة الثالثة - أن تحقيق العدالة الناجزة لا يتم فقط بتعديل التشريعات ولكن أيضاًبتحديث نظام العدالة الجنائية. بالطبع هناك تعديلات تشريعية لا خلاف عليها مثل تقصير مدة الطعن بالنقض، والحد من نظام الأحكام الغيابية، وكذلك وجوب إيداع أسباب الإدانة عند النطق بالحكم بدلاً من مهلة الثلاثين يوماً المعمول بها حالياً وعدم جواز تأجيل جلسة النطق بالحكم في الدعوى بعد سبق القرار بحجزها للحكم، وضرورة التوسع في نظم الوساطة الجنائية. لكن تحقيق العدالة الناجزة يتطلب إنجازاً موازياً لتحديث منظومة العمل نفسها. فالحاصل هو أن العنصر الكفء الوحيد في نظام العدالة المصري هو “القاضي” أسجل ذلك عن اقتناع شخصي بمعزل عن أية تقييمات ظرفية “أخرى”. لكن دعم وتحديث باقي عناصر منظومة العدالة يتطلب إصلاحات عميقة.يكاد يستحيل النزول بالدورة الزمنية الاجرائية للدعوى القضائية إلى النصف مثلاً بغير زيادة عدد المعينين الجدد سنوياً في الهيئات القضائية لمواجهة التضخم الهائل في حجم القضايا والمنازعات في مجتمع يُكثر من اللجوء إلى القضاء لأنه يفتقد ثقافة إدارة منازعاته وخلافاته. الجهاز الإداري المعاون للقضاء قد يكون نعمةً وقد يكون نقمةً، من هنا الحاجة إلى تطوير نظام عمل الخبراء والطب الشرعي.تطوير آخر مطلوب لقاعات المحاكم في عددها ونوعيتها وإمكاناتها اللوجستية العصرية، والمكتبات (ثمة مفهوم جديد للمكتبة اليوم). ولعلّ باب الخروج الوحيد والكبير من أزمة العدالة المرهقة هو تعميم نظام الإدارة الالكترونية للعدالة. نجاحنا في تعميم نظام التقاضي الإلكتروني سيكون نجاحاً في تحييد بيروقراطية وفساد الجهاز الإداري المعاون،وتقليل الدورة الزمنية الطويلة البطيئة للإجراءات والأوراق، وتفادي احتمالات عديدة للأخطاء. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم;