تساءل كثير من الكتاب والمتابعين للشأن السوداني عن أسباب تأخر السودان في اللحاق بركب ثورات الربيع العربي. وعلي الرغم من أن الحالة السودانية تطرح نفس الأوضاع والمقدمات التي كانت سائدة في بلدان مثل تونس ومصر فإنها. , مع ذلك, تتسم بدرجة أكبر من التعقيد والتشابك. وقد دفع ذلك بالبعض إلي القول بأن السودان يستعصي في ظل النظام الراهن بزعامة الرئيس البشير علي تيارات الربيع العربي الجارفة. ومن الواضح تماما أن النظم العربية الحاكمة لا تتعلم الدرس أبدا حيث تعمد دائما إلي حديث المؤامرة والفئات المندسة التي تنفذ أجندات خارجية في مواجهة مطالب المعارضة السياسية المشروعة وكذلك في مواجهة انتفاضة الجماهير الغاضبة. لقد حدث ذلك عندما خرجت الجماهير السودانية التي يغلب عليها الطابع الشبابي معارضة اجراءات التقشف الحكومية الأخيرة ورافعة نفس شعارات الثورة المصرية الشعب يريد اسقاط النظام.كان الرد الحكومي مماثلا تماما لما كان عليه الحال في نظام بن علي في تونس ونظام حسني مبارك في مصر, أي استخدام قبضة النظام الحديدية لمواجهة المظاهرات السلمية. ولا يخفي أن اجراءات التقشف التي أعلنتها الحكومة السودانية في شهر يونيو2012 لمواجهة تدهور الاقتصاد تؤثر لا محالة علي زيادة بؤس ومعاناة المواطنين ولا سيما الشرائح الفقيرة منهم. وعليه فقد كان رد الفعل عفويا من قبل الجماهير التي خرجت في الخرطوم وغيرها من المناطق احتجاجا علي رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية. وقد استغلت حركات المعارضة هذه المناسبة لزيادة سقف المطالبات الجماهيرية لتصل إلي حد اسقاط النظام. وعلي غرار حركتي كفاية وشباب6 أبريل في مصر دشن مجموعة من النشطاء والشباب في السودان حملة مقاومة شعبية لإنهاء حكم المؤتمر الوطني بزعامة البشير أطلق عليها اسم قرفنا. ويشكل طلبة الجامعة ركيزة هذه الحركة التي ظهرت إلي الوجود في عام2009 حيث طالبت بمقاطعة الانتخابات السودانية في ذلك الوقت. ولعل انطلاق المظاهرات المناهضة للحكومة من جامعة الخرطوم تمثل دلالة مهمة استنادا إلي الخبرة التاريخية للتطور السياسي الذي شهدته السودان منذ الاستقلال عام.1956 وإذا كانت اعمال الاحتجاج والمظاهرات التي تشهدها السودان حاليا قد استلهمت جزئيا روح الربيع العربي فإنها تعبر عن السياق السوداني بخصوصيته التاريخية وتعقيداته البنيوية. فقد أدي انفصال الجنوب إلي فقدان نحو ثلثي الاحتياطات النفطية, وهو ما ترك الخرطوم تعاني من عجز في الموازنة العامة وانخفاض حاد في قيمة عملتها الوطنية وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة. ومما زاد الطين بلة هو قيام حكومة الجنوب في يناير2012 بوقف صادراتها النفطية عبر شمال السودان احتجاجا علي رسوم التصدير التي فرضتها حكومة الخرطوم. وعليه فإن مطالب المتظاهرين وإن استندت علي مظالم اقتصادية فإنها اتخذت طابعا سياسيا واضحا. وطبقا لقراءة المشهد السياسي الراهن في السودان فإن نظام البشير لن يستطيع علي المدي القصير استخدام أجهزة القمع المملوكة لديه لمواجهة الحراك الشعبي المتزايد وأعمال الاحتجاجات المستمرة التي تنادي بضرورة التغيير والتحول الديمقراطي الحقيقي في السودان. ويمكن الاشارة إلي عدد من العوامل التي تساعدنا علي فهم المسألة السودانية الراهنة: أولا: النظام السوداني يعمل في بيئة اقليمية ودولية معادية. فالولايات المتحدةالأمريكية أعادت فرض عقوباتها الاقتصادية علي الخرطوم حتي بعد انفصال الجنوب. كما أن صدور قرار الاتهام الدولي بحق الرئيس البشير في يوليو2010 قد زاد من عزلة نظامه علي الصعيد الدولي. ثانيا: يعاني نظام البشير من أزمة مالية خانقة بسبب نضوب موارده من النفط وهروب رؤوس الموال الأجنبية وهو ما يغل يده في الانفاق علي قواعد التأييد المحيطة به. ولا يخفي أن هذا الأثر السلبي يمتد ليشمل عدم قدرة النظام علي دعم وتمويل مؤسساته الأمنية الرسمية والشعبية, وهي التي كانت تحصل علي نحو(70%) من عائدات تصدير النفط قبل انفصال الجنوب. ثالثا: اتساع دائرة الحراك الشعبي المناهض لنظام البشير لتصل إلي شمال ووسط السودان. وقد استفاد الناشطون السياسيون والشباب بصفة خاصة من خبرة كل من مصر وتونس في استخدام وسائط الفضاء الالكتروني لتدعيم أواصر الاتصال بين مختلف أطياف المعارضة داخل السودان وخارجه. علي أن المتغير الحاسم الذي سوف يعجل من تحقيق مطالب المعارضة السودانية وتحقيق التغير المنشود يتمثل في الانقسام الواضح في المؤسسة الأمنية حيث تتركز سلطات الدولة تماما في أيدي البشير وقلة من مستشاريه الأوفياء. وعلي صعيد آخر فإن خوف البشير من حدوث انقلاب عسكري جعلته ينظر إلي الجيش نظرة خاصة بحيث أنه أضحي يعتمد اعتمادا كليا علي الروابط الشخصية والقبلية لتوفير الحماية اللازمة له. وأحسب أن استمرار الاحتجاج الشعبي وعدم قدرة قوات الأمن علي مواجهتها قد تدفع إلي انحياز المؤسسة العسكرية لصفوف الجماهير. إن استلهام روح التغير التي حدثت في جوار السودان العربي بالإضافة إلي الاستفادة من خبرة الانتفاضات الشعبية التي حدثت في السودان وسبقت بكثير موجة الربيع العربي الحالية يمثل الملجأ والملاذ للحفاظ علي وحدة الأمة السودانية بعد انفصال الجنوب. وهنا تبرز أهمية تأسيس توافق سياسي عام لبناء سودان موحد جديد. وذلك هو التحدي الذي يواجه ربيع السودان القادم لا محالة! خبير في شئون افريقيا والسودان المزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن