هل أحزاب المعارضة البريطانية فى حالة «موت سريري»، بينما حزب المحافظين الحاكم يحقق النصر تلو الآخر مستفيدا من حالة الانقسامات والخلافات الحادة التى تضرب أكبر منافسيه، حزب العمال وحزب استقلال بريطانيا القومى اليمينى (يوكيب)؟. إذا كانت الإجابة مستقاة من نتائج الانتخابات التكميلية فى مجلس العموم البريطانى فستكون نعم قاطعة. فحزب العمال، الذى لم يخرج بعد من متاهة مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، خسر أحد أكثر دوائره اخلاصا، دائرة كوبلاند فى قلب الشمال البريطانى التى تصوت تقليديا لحزب العمال منذ أكثر من 80 عاما، أمام حزب المحافظين الحاكم، إذ حصل المحافظين على 44 % من الأصوات، مقابل 37% للعمال، و7% للأحرار الديمقراطيين، و6% ليوكيب. أما حزب «استقلال بريطانيا» القومى اليمينى ففشل زعيمه الجديد بول نوتيل فى الفوز فى مدينة «ستوك اون ترينت» التى تسمى مجازا «عاصمة البركسيت» لأن نحو 70 % من سكانها صوتوا لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتى كانت تعد نظريا دائرة سهلة الفوز لليمين البريطاني، لكن نتيجة الانتخابات أظهرت غير ذلك، إذ نال حزب العمال 37% من الأصوات، مقابل 24.7% ليوكيب، و24.4% للمحافظين. نتائج الانتخابات التكميلية تشير إلى استمرار الأزمة الوجودية التى يمر بها حزب العمال، واليمين القومى البريطانى بعد البركسيت. فحزب العمال دعم بقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى خلال استفتاء العام الماضي، بينما غالبية دوائره الانتخابية ومعاقله التقليدية فى شمال انجلترا صوتت بحماسة لمصلحة الخروج من أوروبا ما أحدث انقساما بين الحزب ومؤيديه التقليديين. أما حزب اليمين القومى البريطانى فقد تأسس فى الثمانينيات بمانفيستو سياسى هدفه الأول إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبخروج بريطانيا خسر الحزب المبرر الأساسى لوجوده سياسيا، وهو يسعى منذ العام الماضى لبلورة أجندة سياسية جديدة تعزز مواقعه بعد البركسيت لكن بلا طائل. وبكل المعايير كانت نتائج الانتخابات التكميلية كارثية بالنسبة للعمال واليمين القومي، وإنجازا كبيرا لحزب المحافظين الحاكم. فالنتائج وضعت العمال واليمين القومى البريطانى أمام الأسئلة المصيرية التى يواجهها الحزبيين بعد البركسيت. فعدم خسارة مدينة ستوك اون ترينت لا يعتبر نصرا للعمال. فحزب العمال لم يفز فى ستوك بل احتفظ بها، لكن بعدد أصوات أقل من الأنتخابات العامة فى 2015. فالمدينة كانت معقلا تقليديا راسخا للحزب ومجرد الشك فى إمكانية الفوز بها أمام اليمين القومى هو بحد ذاته دلالة على حجم الأزمة التى يمر بها حزب العمال. فاز العمال بمقعد المدينة بصعوبة وبهامش أصوات اقل، لكنه يواصل فقدان تأثيره ونفوذه فى الشمال البريطانى الذى يشكل القلب الصناعى للبلاد ومركز الحركات العمالية والنقابات واليوم تعانى من مشاكل متراكمة فهو «حزام الصدأ» البريطاني. أما اليمين القومى البريطاني، فقد فشل فى أول اختبار يواجهه فى معركة قضم مقاعد العمال فى شمال انجلترا. فالحزب بعد بركسيت، كان يعتبر أنه فى طريقه للحلول محل العمال بوصفه الحزب الثانى فى البلاد وأرضيته الجديدة ستكون معاقل حزب العمال فى الشمال. وقد تجسدت مشاكل حزب العمال على نحو كارثى بخسارته معقله التقليدى فى كوبلاند،فهى المرة الاولى التى يأخذ فيها الحزب الحاكم مقعدا من حزب المعارضة فى الانتخابات التكميلية منذ 1982 أى من زمن مارجريت ثاتشر. وقد لام زعيم حزب العمال جيرمى كوربن الكثيرين على نتائج الانتخابات، بدءا من تونى بلير إلى حملات التشويه، لكنه لم يلم نفسه على النتيجة. وهذه هى الأزمة الأكبر أمام العمال. فكل استطلاعات الرأى تشير إلى أن أحد مشاكل الحزب هى زعيمه نفسه. فاستطلاعات الرأى تظهر أن غالبية البريطانيين يثقون فى تيريزا ماى فى إدارة الاقتصاد والخروج من الاتحاد الأوروبى والهجرة والدفاع والصحة أكثر من ثقتهم فى كوربن. كما تشير كل استطلاعات الرأى إلى ان العمال بطريقهم لهزيمة تاريخية فى الانتخابات العامة المقبلة. فضعف حزب العمال فى هذه المرحلة المصيرية من تاريخ بريطانيا هو مأساة سياسية لأنه يترك حزب المحافظين، وبالذات الجناح المتشدد داخله المعادى للمشروع الأوروبى، يقود وحده تقريبا مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد. ومع تضعضع الثقة فى كوربن ونفاد صبر الكثيرين من حوله أمام العمال خيارات قليلة وكلها صعبة. الخيار الأول داخل العمال هو الإطاحة بكوربن، لكن هذا قد يترتب عليه المزيد من الانشقاقات والانقسامات وستجدها تيريزا ماى فرصة ذهبية للدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة، نتيجتها ستكون هزيمة غير مسبوقة للعمال. أما الخيار الثانى أمام العمال فهو استمرار كوربن زعيما على أمل تحسن أدائه. لكن هذا لا يخلو من مخاطر جمة. فوجود زعيم ضعيف على رأس حزب العمال فهو بالضبط ما تريده تيريزا ماي. فالاحتفاظ بحزب العمال فى حالة «موت سريري»، أفضل لحكومة المحافظين من توجيه هزيمة منكرة له فى انتخابات مبكرة قد تؤدى لانتخاب زعيم جديد قوى وله شعبية خلفا لكوربن على رأس حزب العمال. فتيريزا ماى تريد حزب العمال وكوربن جريحين لا قتيلين. وهذا بالضبط ما حدث. فخسارة مدينية كوبلاند جرح كبير فى كبرياء حزب العمال وزعيمه، لكن الحزب لم يمت تماما بسبب احتفاظه بمدينة ستوك، وهذا يعنى أن كوربن سيواصل قيادة حزب العمال فى الانتخابات العامة المقبلة. وهذه أنباء طيبة جدا لحكومة تيريزا ماي، لكنها سيئة جدا لبريطانيا.