عبدالرحيم علي يهنئ المحافظين الجدد ونوابهم    عقب حلف اليمين.. أول رسالة من وزير الري بشأن سد النهضة    التشكيل الوزاري الجديد، مدبولي يعقد اليوم مؤتمرا صحفيا بالعاصمة الإدارية    سعر الأرز والدقيق والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الخميس 4 يوليو 2024    بايدن في رسالة تحد للأمريكيين: أنا زعيم الحزب الديمقراطي ولن أرحل    طائرات استطلاع تابعة للاحتلال تحلق في سماء مخيم «شعفاط» بالقدس    في ذكري ثورة 30 يونيو .. كشفت حقيقة جماعات التطرف أمام أوروبا    وزيرا خارجية السعودية وأمريكا يستعرضان هاتفيا التطورات في غزة    بيراميدز يوضح شرطه لإرسال لاعبيه لقائمة المنتخب في أولمبياد باريس    زيدان يكشف عن اللاعبين المنضمين لمنتخب مصر الأولمبي في رحلتهم إلى باريس    الأهلي يبحث عن انتصار جديد أمام الداخلية بالدوري    انهيار منزل في حي قبلي بشبين الكوم بالمنوفية    طقس اليوم الخميس 4 يوليو 2024.. شديد الحرارة نهارا والعظمى 39    العثور على شاب مصاب بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    عمرو أديب الزمالك «نمبر وان».. وكريم عبدالعزيز يرد: أنا اهلاوي مجنون (فيديو)    ميمي جمال: أنا متصالحة مع شكلي وأرفض عمليات التجميل    حظك اليوم برج الثور الخميس 4-7-2024 مهنيا وعاطفيا.. احذر ضغوط العمل    قصواء الخلالي: الحكومة الجديدة تضم خبرات دولية ونريد وزراء أصحاب فكر    دعاء استفتاح الصلاة.. «الإفتاء» توضح الحكم والصيغة    أول ظهور لحمادة هلال بعد أزمته الصحية    هيئة الدواء تسحب عقارا لعلاج السكر من الصيدليات.. اعرف التفاصيل    حركة تغيير في أجهزة المدن.. أول قرارات وزير الإسكان شريف الشربيني    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم بلدة عقربا وتداهم منازل في سبسطية    أول رد سمي من موردن سبوت بشأن انتقال «نجويم» ل الزمالك    ميسي مهدد بالغياب عن مباراة الأرجنتين ضد الإكوادور في كوبا أمريكا 2024    نهال عنبر عن حالة توفيق عبد الحميد الصحية: مستقرة    "مين كبر ناو".. شيكو يحتفل بعيد ميلاده    حزب الله يعلن قصف مقرين عسكريين إسرائيليين    وزراء خارجية روسيا والصين ومنغوليا يناقشون التعاون في المجالات الاقتصادية    عبدالرحيم علي يهنئ الوزراء الجدد ونوابهم بثقة القيادة السياسية    لميس حمدي مديرا لمستشفى طلخا المركزي    خبراء ل قصواء الخلالي: السير الذاتية لأغلبية الوزراء الجدد متميزة وأمر نفخر به    أبرز مشروعات وزير البترول الجديد بالقطاع الحكومي.. تعرف عليها    حدث ليلًا| موعد إجازة رأس السنة الهجرية وحالة طقس الخميس    أفعال مستحبة في ليلة رأس السنة الهجرية    أمين الفتوى: لا ترموا كل ما يحدث لكم على السحر والحسد    ملف رياضة مصراوي.. تعادل الزمالك.. قائمة الأهلي لمواجهة الداخلية.. وتصريحات وزير الرياضة    الكويت تعلن اعتقال مواطنين بتهمة الانضمام لتنظيم محظور    رئيس مجلس الوزراء يعلن موعد إجازة رأس السنة الهجرية    إجراء تحليل مخدرات لسائق ميكروباص تسبب في سقوط 14 راكبا بترعة بالصف    انتهى الخلاف بطلقة.. تحقيقات موسعة في مصرع شاب إثر مشاجرة بالواحات    نجم الزمالك السابق: هناك عناد من الأهلي وبيراميدز ضد المنتخب الأولمبي    هاني سعيد: بيراميدز لم يعترض على طلبات المنتخب الأولمبي.. وهذا موقفنا النهائي    أستاذ استثمار عن التغيير الوزاري: ليس كل من رحل عن منصبه مقصر أو سيئ    أول تصريح لمحافظ الأقصر الجديد: نعزم على حل المشكلات التى تواجه المواطنين    وزير الزراعة الجديد: سنستمكل ما حققته الدولة وسأعمل على عودة الإرشاد الزراعي    «مستقبل وطن»: تشكيل الحكومة الجديدة متناغم وقادر على إجادة التعامل مع التحديات    اتحاد الصناعات: وزارة الصناعة تحتاج لنوعية كامل الوزير.. واختياره قائم على الكفاءة    تونس وفرنسا تبحثان الآفاق الاستثمارية لقطاع صناعة مكونات السيارات    والدة شاب تعدى عليه بلطجي بالمرج تكشف تفاصيل الحادث    فحص نشاطها الإجرامي.. ليلة سقوط «وردة الوراق» ب كليو «آيس»    مصرع طفل غرقا داخل نهر النيل بقنا    أدعية رأس السنة الهجرية.. يجعلها بداية الفرح ونهاية لكل همومك    الجمعية العربية للطيران المدني تزكي الكويت عضوا بمجلسها التنفيذي للمرة الثالثة على التوالي    عمرو خليل: اختيار الوزراء في الحكومة الجديدة على أساس الكفاءات والقدرة    إحالة طبيب وتمريض وحدتي رعاية أولية بشمال سيناء للتحقيق بسبب الغياب عن العمل    أهم تكليفات الرئيس لوزير الصحة خالد عبد الغفار.. الاستثمار في بناء الإنسان المصري    تعيين عبلة الألفي نائبة لوزير الصحة والسكان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان وكان.. فى كانكان:
عبدالناصر فى غينيا.. حكاية غرام أفريقية
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 01 - 2017

خمسة كيلومترات تفصل بين منزل الأسرة المصرية ومطار كانكان يقطعها جيئة وذهابا الصبى السيد محمد الطوخى على دراجته الميفا الإيطالية مرتين أسبوعيا كل سبت وثلاثاء موعد قدوم الطائرة من العاصمة كوناكرى دون علم أسرته ولعدة أشهر،
مستعيدا فى كل مرة ذكريات سيناريو اليوم التاريخى الذى عاشه فى أواخر أكتوبر عام 1965، ومتجاهلا أوامر والده بالبقاء بالمنزل لرعاية أخته الرضيعة داليا فى الوقت الذى تدرس فيه والدته الدكتورة لطلابها فى كلية جوليوس نيريرى للتربية العليا ويعالج والده الطبيب مرضاه فى المستشفى الحكومى بمدينة كانكان بغينيا.
رحلة -أو فلنسمها مغامرة- قامت بها الأسرة المصرية إلى غينيا فى زمن يتطلع إلى «عالم جديد وشجاع» غيرت حياة الصبى المصرى ذى العشرة أعوام وتكوينه ونظرته إلى العالم. الوالد، حفيد الشيخ أحمد الطوخى شيخ الأزهر، كان يعمل طبيب جراحة المسالك البولية بمستشفى الطلبة بالعباسية بوزارة الصحة، أما الوالدة دكتورة كوثر، كريمة الشيخ عبدالسلام البحيرى رئيس المحكمة الشرعية، فقد كانت تعمل مدرسا بكلية البنات جامعة عين شمس ثم أنشأت فيما بعد قسم اللغة الفرنسية بكلية الدراسات الانسانية بجامعة الأزهر وأصبحت وكيلا للكلية.
شاهد الوالد اعلاناً فى وزارة الصحة عن منح مقدمة إلى حكومات الدول الأفريقية تابعة لصندوق أفريقيا فى وزارة الخارجية، تتعاقد فيه حكومة الدولة الأفريقية مع خبير مصرى يفد إليها مع أسرته لنقل خبرته وتحسين ظروف المعيشة بها والمشاركة فى تنميتها. تحمست الزوجة الشابة المحاضرة بالجامعة وشجعت زوجها الطبيب على التعاقد مع الحكومة الغينية للعمل بها ثلاثين شهرا!! وهكذا توجهت الأسرة إلى غينيا جوهرة غرب أفريقيا الذى انطلقت من موانيه عام 1750 السفن الانجليزية والفرنسية والهولندية والبرتغالية والدنماركية لنقل العبيد إلى العالم الجديد والمستعمرات.
ماض استعمارى ثقيل شاركت الأسرة المصرية فى تحمل أعبائه ومحاولة طمسه ليبدأ عصر جديد فى أفريقيا. رغم العلاقات الدافئة والمد الثورى الذى يربط مصر بغينيا ودول الجوار مثل غانا ومالى فلا يوجد خط طيران مباشر وقتئذ أو حتى فى يومنا الحالى! تم السفر عن طريق زيوريخ بسويسرا، ثم الوقوف فى محطة أخرى فى لاس بالماس فى جزر الكنارى. أخيرا وصلت العائلة المصرية إلى كوناكرى وأقامت فى أوتل دو فرانس أفضل فندق فى غينيا الذى يطل على المحيط الأطلنطى، فى انتظار موعد الطائرة المتجهة إلى كانكان حيث تعاقد الوالد على العمل. يتذكر الصبى الذى اصبح فيما بعد رئيسا لمعهد بحوث أمراض العيون جمال العاصمة كوناكرى الذى اقتصر على محيط الفندق وشاطئ الأطلنطى والشوارع المؤدية إلى قصر الرئاسة لأنها كانت مستعمرة فرنسية منذ عام 1849 ونالت استقلالها 1958، ورغم حداثة عهدها بالحرية وفقرها لاستنزاف المستعمر لمواردها لسنوات فقد كانت تعمها حالة من التفاؤل بالمستقبل شاهدها بنفسه فى سلوك أبناء البلد وطبيعتهم المحبة واعتزازهم بوطنيتهم.
تعرف الصبى على أبناء الجالية اللبنانية، وشاهد احتفاء السفير المصرى فى غينيا آنذاك عثمان أرناؤوط وسكرتير أول السفارة سيد قنديل بالأسرة المصرية، واستقبال السيد جزارين رئيس شركة النصر للتصدير والاستيراد فى غينيا للأسرة بمنزله. فور وصول الأسرة إلى كوناكرى مرضت الأم مرضا غريبا ورغم معلومات الوالد الطبية الجيدة فى الأمراض الباطنية لم يستطع علاجها ولجأ إلى الطبيب المستكاوى وهو مصرى مقيم فى غينيا منذ سنوات ومتزوج أجنبية ويدير عيادة خاصة. بسبب مرض الأم اضطرت الأسرة لمد اقامتها بكوناكرى وتراكمت عليها فواتير الفندق لأن الوالد لم يكن قد تسلم عمله بعد، ويتذكر الصبى زيارة د. رشاد غازى الخبير الزراعى بمنظمة الفاو بالأمم المتحدة لهم بالفندق ومعه حقيبة مليئة بالفرنكات الغينية لتغطية فواتير الفندق وتكاليف المرض، ونفقات المعيشة، ثم الاتفاق الذى تم دون سابق معرفة وبإصرار من هذا الرجل النبيل د. غازى، رحمه الله، وبين والده الطبيب على رد الفلوس عند تسلمه لعمله دون معرفة سابقة أو إيصال أمانة!!
تجربة مميزة
أخيرا استقرت الأسرة فى كانكان وبدأت تجربة مميزة لصبى مصرى فى دولة أفريقية صديقة لمصر حديثة العهد بالحرية ولكنها لا تخشاها ولا تخشى أن تدفع ثمنها باهظا!! لم ينس د. سيد حتى الآن رحلته إلى غينيا رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها، وبعد أن أصبح أستاذا متفرغا بالمعهد الذى كان يرأسه، بل يحرص على تصفح شبكة المعلومات بحثا عن معلومات عن غينيا ويفتخر بتطورها عما كانت عليه فى سابق عهدها بعد تجربة الاستعمار المريرة، ويتمنى الاشتراك فى السفر فى قوافل علاجية تنظمها وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة الخارجية لغينيا. لم تكن الاقامة وردية فى كانكان التى حباها الله بالجمال الطبيعى والغابات الخلابة والجو الجاف المعتدل خلافا لأجواء كوناكرى الممطرة. سيطر على الأسرة خوف من الرعاية الصحية الضعيفة، تناولوا الكينين رغم مضاعفاته اتقاء للملاريا، لم تتناوله الرضيعة داليا أصغر ابناء الأسرة لصغر سنها ولهذا قبل أن تتم عامين كانت قد اصيبت بالملاريا مرتين فى غينيا. اتبعت الأسرة تعليمات الأصدقاء من الغينيين والجاليتين الفرنسية واللبنانية، عدم ارتداء الملابس والأحذية الا بعد تفتيشها بدقة، احاطة الأسرة بالناموسية، وتغطية أكواب الشراب وأوانى الطعام، وسد كل الفتحات كى لا تتسرب منها الثعابين، وعدم السير مساء خوفا من الحيوانات المفترسة. وجد الصبى عقربا فى بيجامة نومه قبل أن يرتديها، وتسلل ثعبانان إلى الدور الأرضى لفيللا الأسرة فى مرتين مختلفتين واستغاثوا بالمارة الذين قتلوا الثعبانين، ويتذكر الصبى حرصه على التقاط صورة انتصارهم على الثعبان الدخيل. اضطرت الأسرة لغلى مياه الشرب، وواجهت صعوبة الحياة، نظرا لضعف مرتب الوالد الذى كان يوازى 300 دولار وقتها، خاصة مع قرار الحكومة الغينية إجبار الأجانب على انفاق ثلثي الدخل داخل البلاد. اتسمت المعيشة بفقر عام لكنه لم يؤثر على الوضع الأمنى واحساس المواطنين والزوار بالأمان. لم تكن الملابس غير متوافرة سوى وفقا للأذواق المحلية ذات الألوان والزخارف التقليدية والأثواب الشعبية. ونادرا ما قاموا بالتسوق مثلما كانوا فى القاهرة، ويتذكر الصبى أنه رأى فى أحد المحال قميصا يماثل القميص المميز ذا العناوين الصحفية الذى كان يرتديه عبدالسلام النابلسى فى فيلم «يوم من عمرى» فأصر على شرائه.
توافرت الفاكهة خاصة الأناناس والموز، والطيور، وعانت الأسرة ندرة اللحوم والسلع الغذائية بشكل عام، وأدى هذا إلى إصابة أفراد الأسرة بالهزال وفقدانهم للوزن بشكل لافت لولا المدد الذى كانت ترسله إليهم شركة النصر للتصدير والاستيراد من صناديق ممتلئة بمنتجات قها والحبوب والبقوليات والفول المدمس والأرز والعدس من حين لآخر. وجدت الأسرة صعوبة فى التعامل مع النباتات المحلية الأفريقية مثل الفول السودانى وواجهت أزمات السكر والدقيق. وكانت الأسرة تحلى أكواب الشاى بمحتويات علبة حلوى المولد التى أحضرتها معها الابنة الكبرى مهجة من القاهرة. كما كانت زوجة الخباز اللبنانية مدام فاخورى تهديهم قدرا من الدقيق للخبيز كل فترة، وكان الشعب الفقير يتجاوز تلك الأزمات بغريزته دون تذمر أو ابداء استياء مثل الموز الذى يجفف فى الشمس ويستخدم بديلا لأرغفة الخبز لكبر حجمه وحلاوة مذاقه، والفاكهة التى يغنى تناولها عن السكر الأبيض. وتتذكر الابنة مهجة خصوبة التربة فى غينيا وثمارها كبيرة الحجم وتحكى دليلا على خصوبة الأرض أن والدها الطبيب اشترى لها ثمرة بامية واحدة قطعتها وملأت بها قدرا طهته لوالدها.
استُقبلت الأسرة بترحاب ودفء وأصبح لها علاقات اجتماعية واسعة بالفرنسيين واللبنانيين والغينيين. ويتذكر أبناء الطبيب المصرى الدعوات التى كانت توجه إليهم للاحتفال بالمناسبات الرسمية والاجتماعية من العائلات الفرنسية واللبنانية. لحقت الشقيقة الكبرى مهجة 16 عاماً بالأسرة بعد انتهاء امتحاناتها الدراسية حيث أقامت مع الوالد فترة شهور الصيف بعد عودة الأسرة إلى القاهرة، وكان سفر الابنة الكبرى فى طائرة خاصة مع طلاب غينيين يدرسون فى جامعة الأزهر بالقاهرة. تبنت الجاليات الابنة الكبرى للترفيه عنها. ولاحظت الابنة، التى أصبحت فيما بعد رئيس قطاع المشروعات بشركة المعادى للتنمية والتعمير، سيطرة تلك الجاليات على اقتصادات المدينة مثل تملكها للمخبز والصيدلية ومحطة البنزين والسينما التى كانت كاملة العدد دائما ولا تعرض سوى الأفلام الفرنسية أو الانجليزية بواقع فيلم مختلف كل يوم بما يحجب الرؤية عن الثقافة الغينية بشكل ظاهره سلامة النية وباطنه نعلمه جميعا!! كان الغينيون يعملون بالزراعات المحدودة أو فى مناجم الذهب والماس ومنهم من كان يعمل بالتجارة، وتعاملت الأسرة مع عدد كبير ممن ينتمون لقبائل الفلان المسلمة فى كانكان وبسبب طبيعة الشعب الغينى وعلاقات الصداقة بين البلدين وتقارب العادات الاجتماعية والدينية استمتعت الأسرة بحياة اجتماعية دافئة خففت من الظروف المعيشية الصعبة.
تمتع الطبيب المصرى بشعبية جارفة لدى الغينيين الذين كانوا يفضلونه على طبيب منافس فيتنامى ماهر يتنقل بدراجة سوليكس فرنسية داخل كانكان، ورغم حرص الطبيب المنافس على التواصل مع أبناء البلد اجتماعيا فقد تفوق عليه جراح المسالك البولية المصرى الذى كان يتحدث الفرنسية التى درسها فى مدرسة فاروق الأول، واستراح له المرضى لتقارب العادات بينهم ولتمتعه بحس إنسانى ومهارة طبية فى تقديم خدمة طوارىء فى تخصصات مختلفة مثل الأمراض الباطنية والنساء والأطفال فى مستشفى متوسط التجهيزات.
سر الغرام أسمه «ناصر»
كان جمال عبد الناصر أبرز أسباب حب الغينيين للعائلة المصرية التى تطلعوا إليها للقيام بدور نهضوى فى المدينة مثلما كان دور عبدالناصر فى أفريقيا ومع قيام الأب بدوره فى المستشفى والأم بدورها فى الجامعة واختلاطهما بالمجتمع الغينى كانا يمثلان قطعة من مصر بفكرها ومساندتها للشعوب فى طريقها للحرية. تقترب الأسرة من اللحظة الفارقة عندما يعلن عن زيارة مرتقبة للزعيم المصرى الذى سيمثل مصر فى مؤتمر القمة الأفريقية فى أكرا، غانا، من 21 إلى 26 أكتوبر، وضمن برنامج عبدالناصر فى مساندة الدول الأفريقية فى معركتها ضد الاستعمار قرر زيارة مالى وغينيا بعد مؤتمر القمة بل وتوقف فى طريق العودة فى نيجيريا الشمالية ليقوم بجولة لمدة ثلاث ساعات فى شوارعها بسيارة مكشوفة وفق نشرة أخبار الجريدة السينمائية النيجيرية الرسمية!! هذه الزيارة هى التى أشار إليها عبدالناصر فى خطابه لمجلس الأمة فى افتتاح دورته البرلمانية الثالثة فى 25 نوفمبر 1965 ويهدف منها إلى حشد «التجمع الإفريقى الذى يملك المستقبل فى إفريقيا بغير نزاع» أمام القوى الاستعمارية.
تواصلت الجهات المعنية مع الأسرة للتنسيق للزيارة، التقت زوجة المحافظ بالدكتورة كوثر لتسألها عن الأكلات المصرية المعروفة وحرصت الدكتورة على الاشراف بنفسها على إعداد الأطباق المصرية الشهية. راقب الصبى بنفسه الاهتمام بالنظافة والزينة استعدادا للزيارة الرسمية المرتقبة، وبدت امارات الفرحة على وجوه الغينيين. بعد انتهاء القمة فى أكرا التى نوقشت فيها قضايا عدة على رأسها «استكمال تحرير القارة الإفريقية العظيمة»، وبحث مشاكل اللاجئين، والعلاقات مع الأمم المتحدة، ومشكلة روديسيا، والفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، سافر عبدالناصر إلى غينيا ومن كوناكرى اتجه بالطائرة إلى كانكان. نقلت العربات الرسمية العائلة المصرية ضمن الوفد الرسمى الذى يستقبل الرئيس فى كانكان، انتظر الصبى الطائرة وراقبها وهى تهبط فى المطار، وشاهد الرئيس يهبط سلالم الطائرة بقامته الفارعة مرتديا قميصا فضفاضا أبيض من القطن المصرى وبنطالا واسعا صناعة مصرية، قدمت له وللرئيس الغيني سيكو توريه صيبية حبات الفول السودانى ثم صافح الرئيس مستقبليه ومن بينهم الأسرة المصرية، وانطلق بهم موكب يلف المدينة بأكملها تتقدمه الدراجات البخارية، واصطف الغينيون لتحية الزعيم المصرى بالزغاريد والتصفيق، وحياهم الزعيم من السيارة المكشوفة التى كان يستقلها مع سيكو توريه. حملوا لافتات تحية له كتبوا عليها باللغتين العربية: « مرحبا بأبطال قناة السويس» والفرنسية (Gloire au heros du canal de suez) رغم أن الزيارة بعد حرب السويس بتسعة أعوام!! لا يتذكر الصبى أنه رأى مع الرئيس أيا من أفراد اسرته أو رجال حراسة فى حمايته مصريين أو غينيين، يتذكر المترجم وسيكو توريه ونكروما وسامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية ومحمد فائق مستشار الرئيس للشئون الإفريقية. خطب فى الجموع عبدالناصر ثم سيكو توريه ونكروما. وقف عبدالناصر خاطبا فى الغينيين باللغة العربية خطبة قصيرة يصفها الصبى بأنها حماسية، كان الصبى يجلس خلف عبدالناصر مباشرة بين سامى شرف ومحمد فائق اللذين كانا يداعبانه. يتذكر صبى العاشرة كلمات رددها عبدالناصر فى خطابه: الكرامة، العزة، مقاومة الاستعمار والاستبداد.. يتذكر أن الغينيين كانوا يصمتون انصاتا للخطاب وكلما ترتفع نبرات صوته المميز يقاطعونه بالتصفيق وبقرع الطبول الأفريقية وترديد اسمه.. ناصر.. ناصر.. رغم أنهم لا يفهمون العربية!! هل كانت الكاريزما والجاذبية اللتان كان يتمتع بهما، أم نبرات صوته المتلونة الحماسية التى كانت ترسل لهم إشارات بمضمون الخطاب؟ أم حضوره الشخصى وبساطته وصوته وصدقه؟ أم كل هذه العناصر مجتمعة؟
توجه الموكب بعد ذلك إلى فيللا المحافظ «فيللا سيلى» حيث استقبلت الأسرة المصرية الزعيم المصرى ومعه الرئيس سيكو توريه والزعيم الغانى كوامى نكروما. أقيمت المأدبة فى قاعتين منفصلتين لاحظ الصبى زجاجات الكوكاكولا وعصير اللوز على المائدة. بعد تناول وجبة الغداء توجه عبدالناصر لتحية من كانوا بالقاعة الأخرى، فور أن دخل القاعة لاحظ الصبى وقوف الجميع احتراما له، وحرصه على النظر إليهم عندما يخاطبهم، ابتساماته، كلمات المجاملة والترحيب التى يوزعها عليهم كأنه صاحب المكان. انكسر كوب زجاجى وأحدث انكساره صوتا مفزعا.. ربت عبدالناصر على رأس الصبى المصرى قائلا: «حصل خير! محصلش حاجة!»
على سلالم الفيللا حيث كان عبدالناصر يودع مستقبليه أشار عبدالناصر نحو الصبى «السيد» ونادى سيكو توريه وسأله:»اين يتعلم هذا الطفل؟ « رد الوالد والوالدة أنه كان يدرس بمدرسة الإرسالية الإنجليزية فى مصر وليس لها مثيل فى غينيا لذا يتكفلان بتعليمه فى البيت. رد عبدالناصر بأن هذا الطفل لا يجب أن يمكث بالبيت، ومن الأفضل له أن يتعلم بالمدرسة بين أقرانه، ثم طلب من سيكو توريه والمحافظ الاهتمام بهذا الشأن. ثم انطلق الموكب نحو مطار كانكان لوداع الرئيس وشاهد الصبى طائرة الرئيس تقلع لكن التجربة لم تمح من ذاكرته... يستدعيها فتتدفق تفاصيلها كأنها كانت صباح اليوم.
اتصل محافظ كانكان ومكتب سيكو توريه بالطبيب المصرى لتنفيذ توجيهات الرئيس عبدالناصر بإلحاق نجله بإحدى مدارس كانكان، لكن الوالد رفض خوفا على ابنه من تلك المجازفة، وقام الأب بتعليم ابنه الرياضيات والعلوم فى المنزل فيما تولت الأم اللغات والدراسات الاجتماعية. كان الصبى يركب دراجته وينطلق بها للتعرف على كانكان لغة وثقافة وشعبا. تعلم وفق قوله ب «مدرسة التعليم الفطرى» وليس «التعليم التلقينى»، عقد صداقات مع الباعة فى الأسواق والفنيين الذين تعلم منهم السباكة واصلاح دراجته وتعلم منهم لغة الفولا المحلية، وكانت له جلسات عديدة مع قسيس فرنسى تابع لبعثة تبشيرية فى كانكان، وقامت مبعوثة من الحكومة البريطانية بتدريسه اللغة الانجليزية، علمته النظام والانضباط والاتقان واحترام المواعيد. وعلمته اللغة الفرنسية مدام سكودييه صاحبة العربة السترين التى تقيم فى الفيللا المجاورة للأسرة المصرية.
كان الصبى متعثرا دراسيا قبل السفر، بعد العودة اكتشف تأثير الرحلة الإيجابى على حياته حين اكتشف أن التفوق من الأمور السهلة فى الحياة!! تقدم لامتحانات الدور الثانى ونجح دون مجهود، يتذكر أن سؤال امتحان الدراسات الاجتماعية عن نبات السافانا كان من أسهل الأسئلة لأنه رآها رأى العين ويعرفها جيدا ويعرف رائحتها وربما مذاقها، وليست فى رأسه حشو معلومات صماء تشكل عبئا على ذاكرته!! عاد الفتى النحيل إلى مصر أكثر جرأة وخبرة ويتقن الإنجليزية والفرنسية والفولا إلى جانب العربية لغته الأم وقد رأى كذلك حشائش السافانا التى حيرت الملايين من التلاميذ المصريين بسبب نظام التعليم فى مصر!!
عادت الأسرة إلى مصر. كانت قد وضعت هدفا أن تشترى من مدخرات الرحلة سيارة فولكس لكنها لم تتمكن من ادخار المبلغ المطلوب. لم يتحقق حلم الأسرة المصرية إلا بعد ذلك بسنوات!! تحتفظ بتذكارات فى حجرة الاستقبال: بيت أسطوانى حفرت على جدرانه العاجية الأفيال يحمل سقفا مدببا هرميا من الأبنوس وله قاعدة دائرية من الأبنوس.. يحرسه على جانبيه فيلان من الأبنوس، أحجار صغيرة من الماس الخام تتألق فى جمالها الطبيعى الذى لا يحمل إلا قيمة عاطفية لمن ذهب إلى غينيا وشاهد جمالها. بروش ذهبى على شكل ورقة شجر دقيقة كالدنتيللا فى تفاصيلها شهادة على مهارة الغينيين فى المشغولات الذهبية.
تجربة فريدة لأسرة مصرية
فى ألبوم صور قديم تحتفظ الأسرة بعشرات الصور التى تسجل هذه التجربة الفريدة لأسرة مصرية فى عصرعبدالناصر. فى الصور طفل مصرى نحيف ينظر لعدسة الكاميرا بنظرات حازمة، يرتدى قميصا أبيض ويضع يديه فى جيبى سرواله القصير. تلتقط له صورة مع أصدقاء مراهقين غينيين تبدو على ملامحهم الطيبة والبساطة، يكبرونه سنا و«هما»، يحمل أحدهم حبلا يربط به قردا صغيرا. يجلس أخته الرضيعة داليا على دراجته العزيزة. صورة توريه خادم الأسرة المسن الأمين.. فى خلفية الصور نباتات كثيفة فى حديقة الفيللا، يقف ناصر وسيكو توريه فى مطار كوناكرى أمام سيدتين ترتديان الملابس الغينية التقليدية ترحبان بالزعيم المصرى فيما ينظر ناصر بحنو واعجاب إلى طفلة غينية تقدم له وسيكو توريه الفول السودانى. صورة الجماهير تحمل لافتة «المجد لأبطال قناة السويس»، الصورة تطبيق عملى لوصف «جموع غفيرة»، الزعماء الثلاثة يمشون آمنين دون حراسة... صورة تجمع الطبيب المصرى وزوجته المحاضرة الجامعية وابنهما الصبى الذى يرتدى سروالا قصيرا وحذاء وشرابا طويلا وقميصا مزررا ويتطلع إلى مصافحة الرئيس عبدالناصر الذى يحجبه سيكو توريه فى الصورة.. يرى فى الصورة المترجم والمحافظ ويشير سيكو توريه بمرح نحو الصبى. فى صورة أخرى يقف الجميع أمام مدخل فيللا المحافظ خلفهم ستارة مزركشة، يضع الرئيس عبدالناصر كفه على رأس الصبى.. عبدالناصر متوجها الى السيارة المكشوفة وعينا الصبى تتعلقان به. لن ينسى الصبى مصافحة الرئيس.. وكفه الصغير فى كف الزعيم الكبير أثناء مراسم الاستقبال والوداع بالمطار، تربيته على رأسه، كلماته، حب الناس له!! نظرتهم إليه التى لم تتغير حتى بعد رحيله بستة وأربعين عاما ونظرته إليهم!! ولا ينسى الغينيون وغيرهم من الشعوب الأفريقية فكر عبدالناصر فى احياء «اليقظة الإفريقية»، وحماسه لدفع «التحفز الثورى الإفريقى»، وشركة النصر للتصدير والاستيراد، والجمعية الأفريقية بالزمالك، وصوت أفريقيا الذى كان يبث من مصر، والفتاة المصرية التى أصبحت السيدة الأولى لغانا، وعلاقات الصداقة الحقيقية التى كانت يوما ما تربط زعماء أفريقيا فى رباط وثيق وعلى رأسهم جمال عبدالناصر. من مظاهر السرد ما بعد الحداثى للتاريخ أن المؤسسات عندما تفشل فى توثيق تاريخ أممها يتقدم الأفراد ليدلوا بشهاداتهم البسيطة لسرد وقائع حياتهم اليومية وكتابة التاريخ الجديد الذى يواجه فقر المعلومات وضعف توثيق سنوات حاسمة فى تاريخنا. يحكى المواطن المصرى تاريخا يكشف لنا ما لم نكن نعرفه عن زعيم رحل عن عالمنا منذ ستة وأربعين عاما، يفترض أن نحتفل فى يناير القادم 2018 بمرور قرن على ميلاده، نظن أننا نعلم عنه الكثير، ولكننا لا نعلم إلا القليل، ما سر زيارته لحى هارلم بمدينة نيو يورك؟ وهتاف الآلاف باسمه فى نيويورك «فيفا ناصر»؟ واطلاق اسمه على طريق طوله كيلو وخمسة وستون مترا فى أكرا عاصمة غانا؟ أو على أكبر جامعات غينيا ومقرها فى العاصمة كوناكرى؟ واصدار الدول للعملات والطوابع التذكارية فى ذكراه؟ نتوقف عند كتل صماء ونغفل التفاصيل الدقيقة والصور النقطية الصغيرة التى ترسم لنا صورة شخصية أقرب إلى الواقع للزعيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.