في منتصف هذا الليل المبارك نحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح، مجدّدين مسيرة رعاة بيت لحم إلي المكان الذي وُضِعَ فيه الطفل، قائلين لبعضنا البعض: "هلُمَّ بنا إلي بيت لحم" (لوقا 15:2)، ومع المجوس:"قد رأينا نجمه في المشرق" (متي2:2)، فنقبله في قلوبنا ونشترك بالفرح العظيم الذي بشّر به الملاك: الا تخافوا، ها إنّي أُبشّركم بفرحٍ عظيم يكونُ فرحَ الشعبِ كلِه: وُلِدَ لكُمُ اليومَ مخلّصٌ في مدينةِ داود، وهو المسيحُ. وإليكم هذه العلامة: ستجدونَ طفلاً مقمّطاً مُضجَعاً في مِذوَد"(لوقا10:2-12). وكما في هذا الليل، هكذا في عيد قيامة يسوع منتصراً علي الألم والموت، نقصد الكنائس أيضاً لنجدّد في ذواتنا فرح الرسل بالحدث العظيم الذي تمَّ فيه الخلاص وبدأ معه بين السماء والأرض عهدٌ جديد. وفي ضوء هذه المقارنة بين العيدين الكبيرين في الحياة المسيحية، نلاحظ أولاً أنهما مترابطان ترابطاً وثيقاًً بفعل وحدة الخلاص من بدايته إلي اكتمالهِ، وكلاهما يشير إلي ليلٍ كثيف من السواد يخيِّمُ علي وجه الأرض، وإلي نورٍ يسطُع في قلبِ هذا الليل مبشّراً بفجرٍ جديد يُطلعه المسيح علي العالم بميلاده العجيب وقيامتهِ المجيدة. بالميلاد نزرع قمح المحبّة والإنسانية: في هذا الليل، وفي غمرة هذا العيد، نطلب من الله أن يُبدّد سواده ويخفف أثقاله علي الرازحين تحت وطأتهِ، فهو الليل المظلم الذي يلف سواده منطقة الشرق الأوسط برّمتها والذي يزرع تحت جناحيه زؤان الإنقسام والعداوة والحقد بدلاً من زرع قمح المحبّة والإنسانية والخير. هو الليل الذي يشهد مأساة المضطهدين والمقهورين والمظلومين والمهجّرين قسراً من ديارهم بمئات الآلاف بل بالملايين من مسيحيين ومسلمين، والذي يحاول قتل الأمل عندهم لما يعانون وكأنه ليلٌ لا حدٍ له، ولا فجر صباح ينبثق من بعده. ومع ذلك، وعلي الرغم من بداية العهد الجديد بميلاد السيد المسيح فادي الإنسان وقاتل العداوة بصليبه المحيي، لا يمكننا القول بأن الخطيئة وثمارها المرّة قد زالت كلياً من الوجود.والجواب يأتي عن هذه الحالة المحزنة من حقيقة واضحة وهي أن الناس لم يقبلوا جميعاً بعد، ولا بصورة نهائية روح المسيح ولا مشيئته بخلاصهم مما يتخبطون من خطايا. فسرّ قبول المسيح في الضمائر الحيّة والقلوب الصافيةلا يزال يواجه إلي اليوم بسرّ رفض المسيح في الضمائر غير المستنيرة بنور الله ومعرفته، وتعبيراً عن ذلك كتب القديس يوحنا الرّسول: «فيه كانت الحياة والحياة نور الناس. والنور يشرق في الظلمات... كان النور الحقّ الذي يُنير كل إنسان آتياً إلي العالم. كان في العالم، وبه كان العالم، ولم يعرفه العالم». وكم يجدر بنا في جو هذا العيد المبارك الذي يضفي علي الدنيا رجاءً جديداً، أن نضع نُصب أعيننا بلادنا العزيزة وشرقنا بأسره، وأن نتطلّع إلي خلاصٍ لبلادنا يشقّ ظلام الليل من حولنا، فينبثق من ليل حياتنا الرّوحية والوطنية فجرٌ جديد وحياة جديدة فنزرع السلام والعيش المشترك لأننا «ملح الأرض ونور العالم... هكذا فليضيء نوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة» (متي13:5-16). هنا نطرح علي ذواتنا ونحن في أجواء الميلاد سؤال يهزنا في الأعماق: هل نحن بدورنا نقبل كلياً حضور السيد المسيح في قلوبنا وأفكارنا وقراراتنا وفي رؤيتنا للكون والحياة؟ بهذا السؤال يتحوّل العيد إلي فرصة لامتحان نفوسنا ولإعادة قبولنا إياه في حياتنا بكل ما فينا من قوة ورجاء. إن الخلاص بالمسيح هو هدية مجانية من الله. كما هو أيضاً من صنع أيدينا وصدق مساعينا. فالرّبّ يريد منّا أن نكون معه شركاء في هذه الحياة، لذلك يمنحنا الفرص والمناسبات من أجل نجاحها وتطوّرها، فيتم فينا خلاصه وتفيض فينا نعمته. إن الله خلق الإنسان علي صورته ومثاله ليشارك في حياته وينال الخيرات الإلهية. ولكن الإنسان غرّق نفسه في الخطيئة والشقاء، وابتعد في عصيانه عن الله فوصل إلي الموت.ولكن الموت ليس النهاية، بل هو محطة للولادة الجديدة والقيامة. ولأن الله بمحبّته يُنْهِضُ الإنسان الذي سقط، ويُعيد الذي ضاع، ويوجه الذي ضلّ. الله الذي أعطي الحياة في البداية، يستطيع أن يُنعش الحياة وإن انطفأت. فالتجسّد هو محبّة الله ومخططه تجاه البشرية. وتدبير الله في التجسّد يكشف صفات الله الجوهريةفلتشرق شمس هذا العيد، نور الطفل المولود في المغارة في قلوبكم جميعاً، ليحلّ السلام الداخلي والخارجي في قلب وضمير كل إنسان فنسلك درب المودّة والأخوّة الذي فتحه لنا السيّد المسيح ودعانا أن نكون إخوة لا أعداء، أقرباء لا غرباء، وأصحاب قلوب من لحم ودم وليس من حجارة. أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك لمزيد من مقالات المطران كريكور أوغسطينوس كوسا