ربما لم يعرف المجتمع التونسى جدلا حول كيف تتعامل البلاد مع الإرهابيين العائدين من الخارج مثلما يعرفه هذه الأيام. هذا الجدل تدفع اليه التطورات الإقليمية الأخيرة ،وبخاصة هزيمة تنظيم "داعش" فى سرت بليبيا و التضييق عليه عسكريا فى الموصل بالعراق والرقة بسوريا . ووفق تقرير أصدره خبراء الأممالمتحدة فى صيف 2015 تتقدم تونس المجتمعات المصدرة لعناصر مايسمى “ بالإرهاب المعولم “ الذين يقاتلون خارج أوطانهم فى صفوف التنظيمات السلفية الجهادية .وهذا رغم محدودية عدد السكان نسبيا ( 11 مليونا) وبالتناقض مع جهود التحديث التى قادتها دولة الإستقلال منذ الخمسينيات على صعيدى التعليم وحقوق المرأة . وحينها قدر هذا التقرير عدد التونسيين الذين يقاتلون فى صفوف التنظيمات الإرهابية بليبيا والعراق وسوريا وبدرجة أقل بمالى بنحو 5500 ،معظمهم من الشباب تتراوح أعمارهم بين 18 و 35 عاما . لكن وسائل الإعلام التونسية لا تخلو الآن من تقديرات أخرى تذهب الى انهم أكثر من 13 ألفا . لكن خبراء تونسيين يؤكدون أن هذا الاحصاء مبالغ فيه وأن التقدير الأدق يدور حول 6500 ، وإن كان وزير الداخلية الهادى المجدوب صرح فى شهر نوفمبر الماضى بصعوبة التوصل الى احصاء دقيق .ونبه فى سياق التصريح نفسه الى خطورة الظاهرة حين قال إن عدد التونسيين الذين جرى منعهم من السفر الى بؤر التوتر خلال ما انقضى من عام 2016 وحده وصل الى 3970. سؤال كيف تتعامل تونس مع العائدين يفرض نفسه على وسائل الإعلام والرأى العام . و “ المغرب” الأكثر رصانة ومصداقية بين صحف تونس خرجت بعنوان رئيسى صباح 10 ديسمبر الجارى هو :” 800 عادوا فى انتظار البقية .. فماذا أعدت الدولة ؟”وقد نسبت هذا الاحصاء الى مصادر بالأجهزة الأمنية والقضائية بتونس وحصرته فى العائدين فقط من القتال فى العراق وسوريا وحدهما . وقبلها بأيام معدودة أدى ظهور شخصية متطرفة يعود نشاطها الى التسعينيات ليعلن توبته علنا فى أحد البرامج الحوارية بقناة تليفزيونية خاصة الى انقسام الرأى العام بين رافض مستنكر وبين موافق ومرحب . ولقد أعاد هذا الظهور التليفزيونى الى الواجهة النقاش حول اقتراح ظهر فى عام 2013 بامكانية سن قانون لتوبة الإرهابيين . لكن النقاش الذى تجدد هذه الأيام أظهر تغلب عدم قبول هذا الاقتراح . وخصوصا لأنه يرتبط بعهد حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي. والى جانب كل هذا تعرض الرئيس الباجى قايد السبسى الى انتقادات بعدما أدلى بتصريح مطلع الشهر الجارى الى وكالة الأنباء الفرنسية أثناء زيارته لأوروبا عقب انعقاد مؤتمر الاستثمار الدولى (تونس 2020) مؤكدا حق التونسيين أيا كانوا فى العودة الى وطنهم والاحتفاظ بجنسيتهم احتراما لنص فى الدستور الجديد ( المادة رقم 25 ) .كما تعلل فى سياق رده على سؤال حول مصير العائدين من القتال فى بؤر التوتر باكتظاظ السجون التونسية . وإزاء انتقادات تتهم الرئيس السبسى بنية التساهل مع الإرهابيين العائدين جراء تحالفه مع حزب “ النهضة “ اضطرت الرئاسة الى الاسراع باصدار بيان يوضح أن احترام الحقوق الدستورية فى العودة والاحتفاظ بالجنسية شئ واخضاع هؤلاء للمحاكمة بمقتضى قانون الإرهاب شئ آخر وأن رئيس الجمهورية ليس لديه أية نية للتساهل مع العائدين . لكن الانتقادات والجدل لم يتوقفا فى وسائل الإعلام مما اضطر السبسى نفسه للإدلاء بأكثر من تصريح فى اتجاه التوضيح نفسه .وأكد غير مرة :” لاتساهل مع الإرهابيين العائدين “. علما بأن قانون مكافحة الإرهاب الجديد الصادر فى أغسطس 2015 يقضى بعقوبات سجن مشددة على التورط فى أنشطة ارهابية خارج التراب التونسى . واللافت أن قضية “ماذا نفعل بالعائدين؟ «تخطت انشغال الأحزاب السياسية التى سارعت لإعلان رفضها أى تساهل الى ساحة المجتمع المدنى . وشهدت الندوة التى نظمتها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بمناسبة اليوم العالمى لهذه الحقوق 10 ديسمبر تباينا فى آراء المتحاورين مع الحرص على ألا يتحول مكافحة الإرهاب ذريعة لإهدار حقوق الإنسان بما فى ذلك المتهمون والملاحقون بالمحاكمات.كما شدد المتحدثون بالندوة على ضرورة تجنب وضع المتطرفين العائدين فى سجون مع سجناء ومحتجزين جنائيين لاتقاء تجنيدهم كما حدث فى عهد الرئيس المخلوع بن على . ومن جانبه أصدر الإتحاد العام للشغل ( العمال ) كبرى منظمات المجتمع المدنى وأعرقها تاريخيا وأكثرها تأثيرا على مجريات السياسة فى تونس الآن والحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2015 بيانا الأربعاء الماضى حذر فيه مما وصفه “كل أنواع التبرير الأيديولوجى والمقايضات السياسية” فى التعامل بتساهل مع الإرهابيين العائدين.وشدد على ان الإطار الوحيد للتعامل مع الدواعش العائدين هو انفاذ قانون الإرهاب وعلى قاعدة المكاشفة فالمحاسبة فالعقاب فالمتابعة والكشف عن شبكات تسفير الشباب وتفكيكها ومحاسبة من استغلوا الظروف الاجتماعية والنفسية والعقائدية للمسفرين . “الهادى يحمد” الخبير فى دراسة الإرهاب بتونس ومؤلف كتاب”تحت راية العقاب : سلفيون جهاديون تونسيون” نشر مقالا لافتا فى صحيفة “ الشارع المغاربى “ الأسبوع الماضى حيث دعا فى مواجهة غلبة رفض التوبة الى الاقتداء بالنموذج المصرى فى مراجعات قادة الجماعة الإسلامية والجهاد خلال عقد التسعينيات . وقال “للأهرام” أن ظاهرة العائدين بدأت فى تونس منذ عام 2012 لكن البلاد على أعتاب موجة جديدة بعد التطورات الإقليمية الأخيرة . وأوضح أن هناك بالفعل معالجة أمنية ذات مستويين : الأول هو ايداع العائدين على الفور بالسجون فى انتظار محاكمتهم وكمحبوسين احتياطيا بمقتضى قانون الإرهاب . والثانى هو اطلاق سراح العائد بعد التثبت بأنه لادليل على ممارسته الإرهاب وحمل السلاح بالخارج لكن مع ابقائه تحت المراقبة الأمنية