التراث اللامادى للشعوب ينقل الإبداع الإنساني من جيل إلى آخر. لذا تتنافس شعوب العالم على تسجيل تراثها الشفاهى على قائمة اليونسكو، بما يمثله من روعة التواصل مع الجذور واستمرار أشكال التعبير الموروثة عن الأجداد، وتجسيد للتفرد، واحترام للتنوع الثقافي، وتمسك بحق البقاء، وتقارب بين الحضارات، وتجسير للهُويَّات. و«فن التحطيب» نشأ في مصر القديمة، وتناقلته الأجيال عبر آلاف السنين، وهو من الفنون اللامادية التي كان يهددها الاندثار، لولا أن أدركته منظمة اليونسكو أخيرا وسجلته على قائمتها للتراث العالمي، وهو حدث مهم للثقافة المصرية. ويذكر أن سلطات مدينة مراكش المغربية حاولت ذات مرة إخلاء «ساحة جامع الفنا» من الألعاب والفنون الشعبية، فانتفض المثقفون ضد تلك الهجمة على التراث، وتضامن معهم مبدعون ومثقفون حول العالم، كان بينهم الكاتب الإسباني «خوان جويتسولو» ووقف مدافعاً عن الساحة بقوله: «.. هذا الفضاء المفتوح على الفرجة، هي كل مراكش ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها». وهي عبارة ستظل حاضرة بقوة فى ضمير الإنسانية، ولدى المهتمين بالتراث الإنساني، خاصة بعدما بادرت اليونسكو سنة 2011 باعتبار «ساحة جامع الفنا المغربية» تراثاً إنسانياً شفاهياً لذات الأسباب التى تخوض مصر من أجلها المعارك لإدراج عناصر تراثها اللامادى على قائمة اليونسكو، وكان أن أفلحت جهودها في تسجيل «فن التحطيب» قبل أسبوعين، بعد تسجيل السيرة الهلالية، فى خطوات مهمة للمحافظة على هذا التراث من الاندثار . وتنبع قيمة فن التحطيب، أو كما يسمونه فى الصعيد «غِيَّة الرجال»، من أن تاريخه يرجع إلى مصر القديمة، حيث كان أحد الفنون القتالية، والنقوش على جدران معبد الكرنك، ومقابر بني حسن، وتونة الجبل تؤكد ذلك، وتصور المصريين القدماء وهم يمارسون التحطيب، وهناك رسوم متعددة تمثل التنوع في لعب العصا، وكانوا يؤدونها كنوع من التدريب للقتال وقت الحروب، وللتسلية في فترات السلم، وكانوا ينزعون نصل الحراب ويتدربون بالعصا على فنون الدفاع والهجوم، وبمرور العصور باتت موروثا شعبيا توارثته الأجيال، ربما يختلف فى محافظات عن أخرى، إلا أنه يظل تقليدا أصيلا يساعد على التقارب والتماسك الاجتماعي، و يمارسه الناس في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات الدينية، خاصة فى الصعيد حيث يعتبرونه وسيلة لترسيخ قيم الشجاعة والوفاء، لا أداة للعنف أو القمع. وبقيت اللعبة «غِيَّة الرجال» هذه تجسيدا للمروءة والشهامة والمنافسة التي لا تعرف الخصومة، فرغم اعتمادها على فكرة القتال بما يعنيه من هجوم ودفاع، وانتصار وخسارة، فإنها تعكس معانى إنسانية جيدة مثل روح الجماعة، والدفاع عن الكرامة، واحترام الآخر، ما جعل الدكتور «خالد أبو الليل» أستاذ الأدب الشعبى بآداب القاهرة يصنفه «فنا اجتماعيا» من الدرجة الأولى، يؤدي وظائف نفسية واجتماعية، ووسيلة فعالة لتفريغ الطاقة بشكل سلمي، حيث لا مجال للثأر في ممارسة التحطيب، فهى الحلبة الوحيدة في الصعيد التي إذا توفي أحد المتبارزين فى أثنائها لا يجوز لأهل المتوفى المطالبة بثأره، أو حتى ديته، وذلك على نقيض حالات القتل الأخرى، كما أنه لا يسمح لمن كان على خصومة باللعب كطرفين متنافسين. و«التحطيب مبارزة أو رقص بالعصا بين شخصين على أنغام المزمار»، ويلتف حولهما دائرة من الأشخاص بعضهم مشجعون لطرف، مقابل مشجعين للطرف الآخر ، ويتابعون جميعا حركات اللاعبين بدقة، وتبادل التحية بين اللاعبين تعني استعدادهما لبدء المنافسة، التي تنطلق بنطق أحد الحاضرين كلمة «ساه» التي تعني أن وقت اللعب حان. ويقوم اللاعبان بالدوران حول بعضهما أربع مرات، لمدة لا تتجاوز الدقيقتين، ثم تنطلق أصوات تقارع العصي على أنغام «المزامير»، وهي الآلة الموسيقية الأشهر في الصعيد. ويلاحظ أن قبضة اليد على العصا هي مؤشر مهارة اللاعب. ويمكن للمحترفين في اللعبة أن يتعرفوا بسهولة على مهارة خصمهم من خلال طريقة قبضته على العصا. ويترقب الحاضرون اللحظة التي يستطيع أحدهما إسقاط العصا من يد الآخر حتى يعلنوا فوزه والاحتفاء به. ودائما يفضل أن يخرج اللاعبان متعادلين، لأن الغرض منها هو المتعة والفروسية، وتحترم فيها التقاليد المختلفة للجماعة، فالكبير مثلاً هو الذي يبدأ اللعب ولا ينبغي التعالي عليه فى أثناء اللعب، وعند احتدام المنافسة بين لاعبين من نفس السن يتدخل الأصدقاء والجمهور الملتف حولهم، ويكون لهم دورالتأمين والفصل بينهما، حتى لا يتعرض أحدهما للآخر، وفي هذه الحالة يأخذ الجمهور والأصدقاء العصا بالهتاف بكلمة «سو» ليتوقف الشجار قبل ان ينقلب إلى معركة حقيقية. وينتشر فن التحطيب في محافظات الصعيد، ويراه د. «حسام محسب» الأستاذ بالمعهد العالى للفنون المسرحية، له دراسة ميدانية مهمة عن التحطيب :«ظاهرة شعبية رئيسية مهمة فى الصعيد ترمز فى مجملها إلى البطل الشعبى ابن النيل فى مواجهة التحدى وتحقيق الانتصار ليس للذات بل للجماعة بأسرها». ويقول أيضا: «هى إذا كانت لعبة بالأساس، لكنها انعكاس لمفاهيم المجتمع ورؤيته للعالم حوله، فكل جماعة من قرية أو مركز تأتى لتشجيع لاعبها وإعلان انتصاره باعتبارها الفئة التى تستحق هذا النصر. إنه صراع أبطال ممثلين لجماعات، وهنا الجوهر المشترك الذى يجعل لعبة التحطيب جزءاً محوريا من المجتمع لا يمكن فهمه بعيداً عن ظروفه الحضارية، الأمر الذى يساعدنا فى النهاية على فهم وتفسير عاداته وتقاليده وفنونه، وللتحطيب مضمون درامى عميق يمكن استدعاؤه من فكرتى البطولة والفروسية بالسيرة الهلالية، وتتم أهم حلقات التحطيب فى الموالد الكبيرة، مثل مولد سيدى «عبد الرحيم»، وسيدنا «العارف بالله»، وسيدى «الحجاج»، حيث يعلن «رفع العصاية»، من بعد العصر إلى المغرب لمدة أسبوع أو اثنين، ويجتمع المحطبين من كل المحافظات، ويؤكد الشكل الاحتفالى لرقصة التحطيب المضمون الدرامى، فهى تنطوى على مفاهيم مشابهة للصراع والتمثيل والإيهام ، وهذا ما يجعلنا نكتشف الأصول الدرامية التى خرجت منها لعبة التحطيب. ويضيف د. محسب أن التحطيب تتفرع منه فنون أخرى موازية مثل الرقص بالعصا الذي تشتهر به محافظات الصعيد،خاصة محافظة سوهاج، وهناك رقصة بالعصا اسمها «رقصة التنراوي» وهناك «البرجاس» أي «التحطيب من فوق ظهور الخيل»، وهو فن حاز أهمية لفترات طويلة في الصعيد، وكثيراً ما تقام حلقات لرقص الخيل والتحطيب ابتهاجاً بزفة عروس أو جني المحصول، حيث تقام حلبة للرقص والتحطيب في مكان متسع وعلى أنغام المزمار البلدي يتبارى الفرسان والخيالة لإظهار بطولاتهم وشجاعتهم. والتفنن فى أساليب الكر، والفر، والنِزال، ويعتمد ذلك على ذكاء الفارس، وقوة صبر الحصان عند النزال. ولا يمكن التطرق إلى التحطيب دون تناول العصا التى تجسد محور التحطيب، والأداة الأساسية التي لا يمكن أن تبدأ اللعبة من دونها، ولذلك نالت جانبا مهما من الدراسة الميدانية للدكتور «حسام محسب» حيث قال عنها: «.. والعصا هنا هى العنصر الأساسى فى رقصة التحطيب. ومن حواراتى مع الممارسين لها وسؤالهم عن نوع العصا وطولها، قالوا إنهم كانوا قديماً يستخدمون الشومة الغليظة، وهذه غير مستخدمة الآن لأنها تؤذى، وتسمى «العصا الغشيمة» أو «شوم محلب»، أى شومة شديدة مكسورة من الشجرة بالقوة، يستخدمون بدلاً منها عصا من الخيزران، ويبلغ طولها تقريباً من 160سم إلى 180سم، كما أن «مَسْك العصا» يختلف من شخص إلى آخر حسب قوته. لكن أصول الحرفنة أن يستطيع الراقص أن يمسكها من طرفها». ويروي الفنان «محمود رضا» جانبا من رحلته للصعيد لتعلم رقصة التحطيب، التى قام بتطويرها وتقديمها بشكل عصرى من خلال «فرقة رضا» الشهيرة، بقوله: «..تركت رقصة التحطيب علامة في رأسي لن أنساها، فقد ذهبت إلى أسيوط لأتعلم التحطيب، ورأيت آلافا من لاعبي العصا في الصعيد، والعصا عندهم اسمها «الشوما» وهي ثقيلة وغليظة وطويلة، وطلبت من شخص أن يعلمني، وجلست ثلاثة أيام أتعلم معه طول الليل والنهار، وفي آخر درس ارتكبت خطأً حيث كان من المفروض أن أحمي جسمي بالعصا، لكني كشفت رأسي وانتهز المدرب فرصة أن رأسي مكشوف و«رقعني» علي دماغي، وطفر الدم من رأسي، وغطي وجهي، وسندت نفسي علي الحائط وقلت للمدرب: «ليه كده؟» فضحك وقال: «علشان تفتكر من الذي علمك رقص العصا».