من أهم تجليات الخطاب الدينى التقليدى فى التعامل مع النص أن أتباعه يعطون له معانى لا تعكس مقاصده، ولا تبالى بسياق آياته، ولا تفسر الكتاب بالكتاب، ولا تراعى قواعد اللغة والأساليب العلمية لفهمها واستنباط الأحكام منها. إنهم يختزلون النص فى مجموعة من آياته معزولة عن مجموع النص، ويأخذون حرفياً بالحدود والغنائم، عازلين السياق التاريخى والثقافى، ضاربين بالمقاصد العامة للنص عرض الحائط. وكانت النتيجة هى تخريج كائنات لا تعرف إلا الجنس والدم والانتقام، كائنات تطبق فلسفة مكيافيللى بغباء تاريخى منقطع النظير إلا فى عصور الجاهلية الأولى! فهم يفسرون النص فى ضوء ثقافة رجعية تكوّنت عقولهم فى رحمها، وأصبحوا سجناء لمذاهب مغلقة لا يستطيعون تجاوزها إلى أية حقيقة أو واقعة ما خارج عقلهم الجامد المتخشب خارج حركة التاريخ، مهما كانت تلك الحقيقة ظاهرة وعينية فى الواقع الخارجى. ولأن كل فعل له رد فعل، فإن ضياع معانى النص الموضوعية مع تيارات التشدد السجينة فى ثقافة رجعية أعطى للتفكيكيين الجذريين المتشددين مبرراً لرفض النص وإنكار موضوعية أى «معنى» له؛ والنظر إلى «النص» باعتباره ممزق المعنى ومفكك الدلالة، فليس له وحدة معنى وليس له مركز ثابت. أما العقل الإنسانى فقد ذهب هباء؛ فلا منطق له، ولا قواعد تلم شتاته! وما حدث مع معنى «النص» حدث مع معنى «الوطن»، فصار بلا معنى، وأرضه صارت مجرد تراب! وتتجلى النزعة التفكيكية الجذرية فى «ما بعد الحداثة» فى تأكيدها على عجز اللغة عن أداء المعنى، ووجود تفسيرات غير محدودة ممكنة للنص، مع غياب القدرة على الترجيح بين المعانى، ومن ثم ضياع النص؛ يقول جاك دريدا: «لا يكون نص نصاً إن لم يُخْفِ على النظرة الأولى، وعلى المقبل الأول، قانونَ تأليفه وقاعدة لعبه. ثم إن نصاً ليظل يُمعن فى الخفاء أبداً. وليس معنى هذا أن قاعدته وقانونه يحتميان فى امتناع السر المطوى، بل إنهما، وببساطة، لا يُسلمان أبداً نفسيهما فى الحاضر لأى شىء مما تمكن دعوته بكامل الدقة إدراكاً. وذلك بالمجازفة دائماً (أى من لدن النص)، وبفعل جوهره نفسه، بالضياع على هذه الشاكلة نهائياً. من سيفطن لمثل هذا الاختفاء أبداً؟ يمكن لخفاء النسج بأية حال أن يستغرق، فى حل نسيجه، قروناً». ومن هنا، فكل قراءة عند جاك دريدا ليست موضوعية، وكل تأويل هو نسبى، وكل محاولة لإدراك النص ليست نهائية؛ فالنص يظل يُمعن فى الخفاء أبداً! والإنسان «سجين اللغة»، ولا يستطيع عبورها إلى الواقع، بل إن اللغة هى مرآة غير دقيقة للواقع الذى نعرفه من خلالها، والإنسان لا يستطيع تجاوز ذاته إلى حقيقة ما خارج الذهن، فالموضوعية غير ممكنة؛ ولا شك أن فى هذا عوداً من جهة للذاتية المفرطة المنكرة لوجود المعنى الموضوعى، وعوداً من جهة أخرى للاأدرية التى نعتبرها أيضاً أحد جذور النزعة العدمية. ومن وجهة نظرنا نرى أن هناك بالفعل جانباً غامضاً فى اللغة، يترك مساحة لتأويلات عديدة، لكن لا شك أيضاً أن هناك جانباً يحمل معنى محدداً، ولولا هذا الجانب لما استطاع البشر التواصل، ولولاه لما استطاع دريدا أن يعبر عن أفكاره هو شخصياً! ولولاه -أيضاً- لما استطعنا فهم دريدا نفسه! ولو لم يكن للكلام أى معنى دلالى لما فهمنا معنى أى خطاب، ولما أمكننا فهم التفكيكية ذاتها، ولما استطعنا قراءة أعمال أنصارها وفهمها، ولشككنا فى دلالة النصوص، ومنها نصوص دريدا شخصياً! وسؤالى إلى دريدا: إذا كنت متأكداً من ضياع المعنى فلِمَ تكتب؟! أوليس «فعل الكتابة» يستلزم أنك تقصد إيصال «معنى ما» إلى القارئ؟! ومثلما عجزت «ما بعد الحداثة» عن القضاء على سجن «الأنساق المغلقة» عند ديكارت وليبنتز وهيجل، وإنقاذ الذات العقلانية من المذهبية الضيقة، عجز التفكيكيون العرب عن القضاء على سجن المذاهب الفقهية والعقائدية المغلقة. ولم تضع العقلانية النقدية مع المتشددين والمتطرفين الدينيين فقط، بل ضاعت أيضاً مع حركات ما بعد الحداثة؛ فكلاهما شريك فى اللاعقلانية، وكلاهما شريك فى ضياع المعنى، وكلاهما أضاع الإنسان. وبدلاً من أن يقفا ضد بعض شطحات العقل الحداثى وانحرافاته عن مبادئه الأولية وتهوره، عن طريق العقلانية النقدية مثلما فعل كانط فى «نقد العقل»، أقول: بدلاً من ذلك تحالفت تيارات التجمد وخصومها من تيارات التفكيك الما بعد حداثية على نقد العقل وتفكيكه ثم إعدامه! وهذه هى الخطوة الأخيرة لضياع «النص» وضياع «المعنى»، وهذه هى الخطوة قبل الأخيرة لضياع «الوطن»! هنا يظهر أن تفكيك الخطاب الدينى التقليدى لا بد أن يصاحبه تفكيك مُناظر لما بعد الحداثة؛ فكلاهما انحراف عن العقلانية النقدية والعقل المعيارى ومنهجية التأويل العلمى.