الشركات مثل الكائنات الحية في مسيرة حياتها وموتها.. فهي تولد بالمال الذي يجري في شرايينها مثل الدم وهي أيضا عرضة للموت او الافلاس المفاجئ بسكتة سببها ارتفاع معدلات التضخم او الانهيار في القيمة الشرائية للعملة. وهذه الظاهرة طالما يرصدها علماء الاقتصاد في الدول التي يضربها التضخم وعدم الاستقرار الاقتصادي بسبب الازمات المالية وتتعرض خلالها الاصول المالية للشركات للاستنزاف والافلاس او الموت المفاجئ بعد سنوات قليلة من النشاط. إننا نعاني في مصر منذ سنوات من تداعيات التضخم وتقلباته رغم الجهود التي يبذلها البنك المركزي المصري للسيطرة علي التضخم النقدي ولكن ليس كل شيء بيد المركزي. فعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وتراجع الانتاج القومي في ظروف حالة ثورية استثنائية كالتي تمر بها مصر حاليا بسبب الصراع علي السلطة, فإن التضخم ينخر كالسوس في الكيانات المالية والإنتاجية مثل الشركات التي تضطر للاغلاق بسبب احكام الافلاس التي ارتفعت بمعدلات كبيرة في مصر خلال سنوات الاضطراب السياسي والاقتصادي الحالية, الامر الذي يحتاج منا للاستماع لكل فكرة تعطينا إشارات للخروج من الحالة الاقتصادية المتردية حاليا وافساح المجال للاعتماد علي الذات في ايجاد مصادر تمويل جديدة للمشروعات وتنشيط الاستثمار المحلي وافساح المجال لنظرة جديدة لمفهوم المال و اعادة تقييمه مثل مخزون عيني او سلعي قابل للهلاك والخسارة ويحتاج الي مخصص له في ميزانيات الشركات بسبب ارتفاع معدلات التضخم. هذه الفكرة التي خرجت من ابداع الدكتور تامر عبد الخالق المصرفي في احد البنوك المصرية تطرح الفكرة القائلة بأنه قد حان الوقت لربط جديد بين علمي الاقتصاد والمحاسبة في مواجهة غول التضخم الذي يدفع بكثير من الشركات بل ودول للوقوف علي حافة الإفلاس والازمات المالية والاضطرابات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. بدون الدخول في المصطلحات المعقدة لعلمي الاقتصاد والمحاسبة, فإن فكرة الدكتور تامر التي عرضها في مؤتمر معهد التمويل الدولي الذي عقد في واشنطن في سبتمبر الماضي امام نحو الف عالم اقتصاد, وعرضت الارجنتين تطبيقها لمواجه التداعيات القاتلة للتضخم علي اقتصادها, تري انه قد حان الوقت لان نغير وجهة نظرنا او تقييما للمال او للاصوال المالية للشركات والنظر لها مثلما ننظر ونقييم المخزون العيني السلعي للشركات. فإذا كنا نضع مخصصات للاهلاك ونعتبرها اصولا معرضة للخسارة لتآكل قيمتها بسبب ارتفاع معدلات التضخم او بمعني بسيط انهيار القيمة او القوة الشرائية للعملة او بمفهوم اخر اجمالي السلع التي يمكن ان يشتري بها الانسان بعملة مثل مائة جنيه مقارنة بما كان يشتري بها من سلع وخدمات منذ سنة مضت بهذه المائة جنيه, فاننا لابد ان ننظر الي المال او الاصل المال للشركة الذي يمثل عمودها الفقري واستمرار وجودها وكيانها في الاقتصاد او الحياة بنفس هذه النظرة التي ننظرها بها الي المخزون او الاصل العيني, وبالتالي لابد من اعادة تقييمها وفقا للقوة الشرائية بعد حساب معدل التضخم وبالتالي يتم حسابهاوفق قوتها الشرائية بالسوق وليس بالارقام المطبوعة علي العملة. باختصار الجنية او الاصل المالي كم يساوي الآن في السوق وكم بيضة يشتريها. هذه القيمة المتناقصة للاصل المالي مثل المخزون لابد من اعادة حسابها علي اساس معدلات التضخم وترحيلها الي خسائر بالميزانية, وعمل مخصص لها مثل مخصص الاهلاك وبالتالي ستظهر الارباح الحقيقية الناتجة عن اصل مالي حقيقي وليس اصل وهمي. ولكن ما يحدث حاليا هو انه يتم توزيع ارباح علي المساهمين من اصول مالية غير حقيقية بفعل التآكل الناتج عن التضخم المرتفع وبمرور الوقت يفاجأ المستثمرون بتآكل الاصول المالية للشركة وتعرضها للافلاس او الموت المفاجئ الناتج عن السكته التضخمية. ووفقا لهذه الرؤية الجديدة, فإن هناك خللا في تقييم الاصل المالي, الشهبية بالدم الذي يجري في شرايين الانسان, بسبب تقييمه او حسابه بسعر التكلفة وهي اسعار ثابته وليس باسعار السوق المتغيرة بفعل ارتفاع الاسعار او التضخم, مما يؤدي الي ارباح وهمية وتآكل للاصول المالية والتعجيل بالافلاس المفاجئ لمئات الشركات المصرية, حيث ان المال له مدة صلاحية ومعرض مثل السلع للافساد وتناقص قيمته بمرور الزمن ولابد من معالجته محاسبيا بطريقة جديدة وتحميله علي الخسائر وتخفيض ارباح الشركات. فمن وجهة نظر الدكتور تامر ان التقارير المالية اصبحت قاصرة وغير قادرة عن الكشف عن الصورة الحقيقية للاوضاع المالية ولا تطلق ضوءا احمرا يحذر اصحاب الشركات من خطر الافلاس المفاجيء حيث قامت الشركة بتوزيع ارباح غير حقيقية ودفع ضرائب عن ارباح غير حقيقية. ويدلل علي التاثير السلبي المتراكم للتضخم علي قيمة الاصول المالية للشركات المصرية بقراءتة للارتفاع المستمر لمعدلات التضخم في الاقتصاد المصري منذ عام2002 حيث كان يدور في هذه السنة حول3% سنويا ثم ارتفع الي23% في عام2008 وهي سنة اندلاع الازمة المالية العالمية التي كان لها تاثير كبير علي الاقتصاد المصري, ثم عادود التراجع الي11% في يناير الماضي حسب الارقام المعلنة من جهاز التعئبة والاحصاء المصري. واذا كان المستثمر يقوم بتوزيع ارباح وهو يتجاهل ما يفعله التضخم في المال فهو في الواقع يتجاهل انهيار القوة الشرائية لهذه الاموال بعد مرور السنة المالية. والواقع اننا نجد علاقة طردية متزايدة بين معدل التضخم ومعدلات اشهار افلاس الشركات واحكام الافلاس والتصفية. فنجد انه وفقا للبيانات الصادرة عن جهاز التعئبة والاحصاء ان عدد حالات البروتستو ارتفعت من142 الف حالة في عام2007 الي259 الف حالة في عام2011, كما ارتفع عدد احكام الافلاس من نحو180 حكما في عام2007 الي319 حكما في عام2011, ونجد ان حالات الذروة في هذه المؤشرات كانت في عامي2008 و2011 حيث ارتفع عدد حالات البروتستو من142 الف في عام2007 الي205 الف في عام2008 ثم انخفضت في عام2009 الي125 الف و500 في عام2009 لتعاود الصعود في عام2010 من نحو147 الف حالة الي259 الف حالة في عام2011. ونجد نفس الاتجاه في احكام الافلاس خلال نفس الفترة المقارنة حيث ارتفعت عدد احكام الافلاس من150 حكما في عام2008 الي245 حالة في عام2009 لتستمر في الارتفاع الي287 حكما في عام2010 ثم لتقفز الي319 حكما في عام2011, ونجد اعلي مستوي لتقلبات التضخم في الفترة من عام2008 الي2010 وهي سنوات الاضطرابات المالية والسياسية والاقتصادية في مصر. ورغم اهمية عامل التضخم في تزايد او ارتفاع حالات الافلاس في الاقتصاد المصري الا انه ليس العامل الوحيد المتسبب في ذلك, فيري الدكتور تامر انه هناك عوامل داخلية واخري خارجية بجانب عامل تآكل الاصول المالية بفعل التضخم منها السيولة غير المستقرة وتأجيل رد الفعل او تسويفه او التخبط في اتخاذ القرارات داخل الشركات بالاضافة الي عوامل مرتبطة بالاقصاد الدولي مثل الازمات المالية وعوامل خاصة بالاقتصاد القومي مثل الركود وعزوف الطلب علي المنتجات او تقادمها. ولكن يبقي تآكل الاصل المالي اهم هذه العوامل. و خصم مخصص لهلاك المال او لخسارته يبقي قرارا يؤثر علي ما يتم توزيعه من ارباح علي المساهمين ودفعه من ضرائب مستحقه علي الشركات لخزينة الدولة. ويري ان قرار توزيع الارباح مقترح لمجلس الادارة علي الجمعية العمومية للشركة ولا يشترط موافقة مصلحة الضرائب المصرية عليه الا اذا اعترفت الدولة بالخسارة الناتجة عم انهيار الاصل مخصص التضخم وهو ما يتطلب تشريعا يتم فيه اعادة حساب الضريبة علي الارباح المخفضة وهنا يتم استثمار الفرق الضريبي كمساهمة مملوكة للشركة في مشروعات لمدة عشر سنوات ضمن اعادة صياغة الخريطة الاستثمارية في مصر, فالفكرة هنا التحكم في نسبة توزيع الارباح بما لايتعدي الارباح الحقيقية ويستنزف اصول الشركة, واستخدام هذه الاموال المحتجزة من الارباح يعتبر اقل تكلفة من اصدار الاسهم العادية. واذا كان سعر السهم في بورصة الاراق المالية يتاثر بتوزيع الارباح, فإن نمو الشركة يرتبط بمقدار الارباح التي يتم احتجازها واعادة استثمارها في الشركة. وفي مواجهة تنفذ هذه الفكرة علي ارض الواقع, هناك العديد من التساؤلات بعضها اجاب عنها الدكتور تامر. اولها هل تطبيق هذه الفكرة يتم علي الشركات الخاصة والمساهمة فقط ام يمتد للشركات الممولكة للدولة ؟ فقال ان جميع الشركات تتشايه اصولها ومن ضمنها الاصل المتمثل في النقدية والمدينين التي تنهار بمرور الزمن ومن المنطقي ان يتم تقييم الاصل بقيمته السوقية وليست بالارقام المضلله والتي ينتج عنها ارباح وهمية وتستنزف اصول الشركة سنة بعد سنة. ثانيا واذا ما اعترفت الدولة بمخصص التخضم المقترح علي الارصدة المالية فهذا يعني اعترافها بانخفاض الضريبة المحصلة عن الارباح المخفضة وفي هذه الحالة يقترح شراء اسهم بقيمة فرق الضريبة في المشاريع التي يزمع انشاؤها في الخريطة الاستثمارية لمصر خلال السنوات الخمس التالية للتطبيق ولا يسمح ببيع هذه الاسهم الا بعد عشر سنوات من الشراء. اما اذا لم تعترف الدولة بمخصص التضخم المقترح, هنا يتم عمل موازنة موازية وهو نموذج مؤقت لاعادة حساب الربح الحقيقي يتم فيها خصم مخصصات التضخم وتحديد قيمة الربح القابل للتوزيع او الربح المحتجز. ومن وجهة نظر محايدة ولكن معايشة للفكرة يري الدكتور اسامة الانصاري استاذ المحاسبة ووكيل كلية التجارة بجامعة القاهرة ان تنفيذ هذه الفكرة تعني امرين الاول انه لا بد من موافقة الجهات الحكومية وجمعية المحاسبين والمراجعين المصريين المصريين علي تطبيق التعديل المطلوب علي حساب التضخم ولابد من موافقة رسمية علي ذلك لان القواعد او المعايير الخاصة بالمحاسبة وعددها يصل لنحو40 معيارا هي قواعد عالمية وليست مصرية وتطبق علي جميع الشركات فلا يوجد حرية مطلقة للمراجع ام المحاسب في تطبيقها فلابد من الموافقة عليها, وهذا قد يحتاج لوقت للإتفاق علي تطبيقها لان تطبيق مخصصات التضخم يتم وفق قواعد منشورة لان عدد كبير من الشركات مقيدة بالورصة وبالتالي لابد ان تخضع للقواعد الدولية. ثانيا ان تطبيق هذه الفكرة سيؤثر علي قيمة الارباح النقدية التي يتوزع علي المساهمين بالشركات حيث يتم تقييم الاسهم علي اساس ربحية السهم, واي حجز او خصم من هذه الارباح هو عبارة عن تراكمات راسمالية يتم اعادة استثمارها حتي تتخلص الشركات من شبح احتمالات الافلاس لعدم توافر ايراداتها. اما اذا كانت الشركات غير مقيدة بالبورصة فان هذا قد لاينسجم مع قرارات الجمعية العمومية للمساهمين لو ان هذه الشركة عائلية, فاذا ما قدم المحاسب هذا الاقتراح قد يرفضه الاغلبية في الجمعية العمومية لان كثير من الناس تريد الارباح النقدية وقليل من المساهمين يفكر في اعادة استثمار هذه الارباح لتقليل مشاكل التضخم في المشروعات. والواقع ان هذه الفكرة جديدة وسيكون لها تاثير جيد في اعادة تقييم آثار التضخم علي الشركات المصرية, ولكن المشكلة في اقناع الجهات المسئولة عن التطبيق مثل جمعية المحاسبين المصريين والاجهزة الخاصة بالرقابة المالية بالدولة وايضا الشركات التي تقوم بتوزيع ارباح. ويضيف الدكتور الانصاري ان مخصص التضخم يتم لبعض الاصول المالية مثل الاسهم والسندات والاوعية الادخارية ولايتم بالنسبة للاصول الثابته. وهناك مخصص اهلاك لمواجهة اخطار فعلية مثل اسم الشهرة للمحل. ويتم خصم احتياطي قانوني حتي تحافظ الشركات علي التراكم الراسمالي لها حيث يتم خصم5% من الارباح كاحتياطي قانوني حتي يصل الي50% من راس المال يمكن بعدها للشركة عن خصمه فهو اجباري حتي نسبة50% واختياري بعد ذلك كما يتم خصم2% احتياطي لمحفظة القروض ولكل ذلك قواعد, وفي حالة الاتفاق علي تطبيق هذه الفكرة فيمكن مضاعفة الاصل المالي للشركة بعد فترة, ولكن يستلزم ذلك سلسلة من الاجراءات وتعديلات تشريعية, وتعديل في قواعد المحاسبة المصرية لحساب مخصص التضخم المقترح وحساب الضرائب خاصة انه يمكن ان يكون لها تاثير سلبي علي المتحصلات من الضرائب من الشركات. ولكن اعادة استثمار هذه الاموال في مشاريع سيساهم بالتاكيد في توفير تمويلات محلية لمشاريع التنمية يمكن ان تسهم في توفير فرص عمل لمواجهة معدلات البطالة المتفاقمة. فالقضية الطروحة الآن أمام فقهاء الضرائب وعلماء الاقتصاد والمحاسبة: هل خصم جزء من ارباح الشركات لاعادة استثمارها في مشاريع تنمية لمواجهة مخاطر التضخم هو افضل كمنهج للدولة لتسريع معدلات النمو بالاقتصاد القومي ام الجباية الضرائبية هي الهدف والطريق لسد عجز الموازنة العامة حتي لو استمر شبح الافلاس وغلق الشركات الذي يهدد العمالة بالتشرد والبطالة ؟