هل يمكن فحص موقف الألعاب الشعبية فى اللحظة الحاضرة بمعزل عن تأمل العلاقة الجدلية بين المجتمع والثقافة الشعبية، ودراسة موقع الأخيرة من الذهنية المعاشة ووجدانها، ذلك أن الألعاب الشعبية شأنها - بداهة - شأن بقية حقول الثقافة الشعبية، لا يمكن فحصها خارج سياقها المجتمعى المُنتج والمتعاطى لها فى آن، ذلك أن كليهما مرتهن بالآخر ومرتبط به ارتباطا لا انفصام بين عراه. قد توحى الإطلالة الأولى بغياب ألعاب الأطفال الشعبية عن مشهد الحياة المصرية، خصوصا أمام سيطرة الألعاب الإلكترونية - المنتشرة على أجهزة الحواسب الإلكترونية، ومواقع الشبكة الدولية للمعلومات - على مشهد الحياة وغزوها بكثافة لوجدان وعقول الأطفال وسعيها لتقوم بالمعادل التعويضى للألعاب الشعبية، مما أسهم بصورة تراكمية فى عزلة الطفل عن واقعه الحى مقابل حياة أخرى بديلة افتراضية. وإذا كانت هذه الصورة – افتراضا- هى حاضرة أطفال المدن الكبرى، فإن واقع الحال فى المدن الصغيرة وتخومها والقرى الفقيرة البعيدة عن دوائر البحث الأكاديمى لا يشير إلى هذا بصورة كبيرة. وكون الألعاب الشعبية لا تحظى بالإنصات الكافى من المجتمع؛ فإن هذا لا يعنى اندثارها أو تخلص المجتمع منها، وإنما مثلها مثل بقية العناصر المكوِّنة للثقافة الشعبية تكابد الإقصاء والتهميش وإغفال تدارسها وعدم إدراجها فى سياقات التخطيط المؤسسى وتوظيف إمكاناتها فى عمليات التنمية المستدامة، والتعالى عليها لا من قبل الطبقات الأعلى أو من قبل الثقافة المؤسسية فحسب، وإنما من أبناء الطبقة الشعبية كذلك. وفى هذا السياق يلاحظ «فارس خضر «أن من أهم الأسباب التى أدت إلى غياب الألعاب الشعبية نمط الثقافة السائد لدى كثير من فئات المجتمع المصرى التى باتت تحتقر كل ما هو شعبى. فأصبحت تصف السلوكيات المشينة بالشعبية، مما جعل مصطلح «الشعبية» سيئ السمعة ويشير إلى حالة من تدنى السلوك. ولا يجب أن يؤدى عدم مصادفة الباحث لنشاط فولكلورى معين فى موقع البحث الميدانى إلى قناعته بأنه قد اندثر أو تخلت عنه الجماعة الشعبية، ولم يعد له وجود؛ فيأخذ فى التباكى على أزمنة مضت كانت الثقافة الشعبية فيها هى سيدة الموقف، وإنما قد يشير هذا إلى عدد من الدلائل التى لا غنى للباحث عن الالتفات إليها والإنصات إلى قانونها، إذ إن مجالات الثقافة الشعبية تتأبى على التنميط والتماثل والتعميم والتصورات الذهنية المسبقة، فالمنتج الشعبى ابن بيئته الخاصة، بظروفها الجغرافية والتاريخية وطبيعة علائقها الاجتماعية، التى تخصها وحدها دون سائر الأماكن، وهو خطأ يلاحظ شيوعه فى بعض الأبحاث الفولكلورية، حيث يدخل بعض الباحثين الميدان وفى ذهنه تصورات وأفكار مسبقة عن أنشطة بذاتها يبحث عنها أو يختبر وجودها، فإذا لم يصادفها وقع فى فخ التعميم والحكم باندثارها. دون أن يراعى عامل الكمون الذى يعترى بعض المظاهر الفولكلورية نتيجة خفوت مبررات وجودها أو تعرضها لمتغيرات توجب عليها التعديل من وضعها لتلائم طبيعة هذه المستجدات، لذلك يخشى أن تكون حالة الكسل العلمى وما يتطلبه البحث الميدانى من جهود دؤوبة ومخلصة ومهارات غير محدودة أو التنظيرات الثقافية المكتبية هى وراء الترويج لفكرة اندثار الألعاب الشعبية. فى مديح اللعب ونتحدث هنا عن الألعاب الشعبية بوصفها وعاءا حافظا لتقاليد الأمة وعاداتها العاكسة لمعتقداتها ورؤاها التى تشكلت عبر عصورها المختلفة، متجاوزة كونها مجرد أنشطة للتسلية واللهو وتبديد الوقت، بما يجعلها إحدى المرآوات العاكسة لحقائق المجتمع الراسخة، ومكوناته القيمية، فضلا عن كونها تشكل مجالا خصبا لتبادل واكتساب الخبرات والمعارف وتنمية المهارات، تغطى مظاهر الحياة كافة وتشبع حزمة من الحاجات الوجدانية والذهنية والعضلية. فضلا عن دورها الكبير فى اكتشاف الذات، وتنشيط علاقتها بالواقع المحيط والتعرف على مكوناته واستثمار إمكاناته فى ابتكار وسائل لها من منتجاته الطبيعية أو مما تخلفه الاستخدامات الحياتية للخامات المختلفة على نحو ما كانت تقوم به البنات فى صناعة العرائس من بقايا قماش أو ملابس قديمة، بما يعزز من مفهوم الانتماء. إضافة إلى ما تدخله من بهجة على النفس، وتحقيق للذات، وتدريب على الحياة الجمعية، فضلا عن إسهامها البين فى تكيف الأطفال المأزومين مع الحياة حيث يصبح اللعب أحيانا واحدا من وسائل العلاج النفسي. كما تعمل الألعاب على احترام تقاليد المجتمع وروابطه والامتثال لأخلاقياته عبر الالتزام بقوانين اللعبة وما تتضمنه من مبادئ. فضلا عما يحققه غياب المقابل المادى فى الألعاب من تقديس لقيمة العمل والتعاون مع الآخرين بمحبة، وما تقدمه كذلك من دعم معنوى للذات، باكتساب المعرفة وتحويلها إلى ثقافة تنعكس على السلوك. وتتعدد أنواع الألعاب لتلبى وتشبع حاجات مختلفة للطفل وتعزز مجموعة من المفاهيم لديه، تسهم فى تدريب الطفل على التفكير المتكامل والنظرة الشمولية والارتباط الوثيق بمفردات الحياة من حوله، فهناك: الألعاب الموروثة التى تعكس ظروف حياة الأولين وطرائق معيشتهم وتعاملهم مع الواقع المحيط، مما يعمل على ربط الطفل بتراث مجتمعه. وهناك ألعاب الحظ والإيهام وخفة الحركة ومهارة استخدام اليد والخداع البصرى التى تدرب الطفل على الاستفادة من طاقات الجسد وإمكاناته الفائقة وتنشيط حواسه، ومهارة الأداء والمنافسة الشريفة، واكتساب المهارات الجسدية كالرشاقة والسرعة والقفز والتوازن وتقوية عضلات الجسم. إضافة إلى الألعاب اللفظية التى توسع من مدركات الطفل اللغوية. وتنمية حصيلته اللغوية. وألعاب الذكاء وسرعة البديهة، التى تعمل على تنمية الإدراك والانتباه وسرعة الاستجابة. والألعاب التمثيلية، بما تنتجه من تحسين القدرة على التواصل مع الآخرين وتحقيق الذات الفردية دون إغفال لاحترام الديمقراطية. والألعاب الغنائية التى تدرب الطفل على إدراك مفاهيم الإيقاع والانتظام والوحدة والتنوع. والألعاب التربوية، التى تعود الطفل على حقائق الحياة وتراتبية الأدوار. كما أن هناك ألعابا تؤدى داخل البيت وأخرى تؤدى خارجه بما يعمل على تنمية الحس بالمكان والتأسيس لاحترام قوانينه وأبعاده. إضافة إلى انقسام الألعاب إلى ألعاب خاصة بالأولاد وأخرى خاصة بالبنات، راعت فيها الجماعة الشعبية الفروق بين النوعين، بما يصب فى صالح تنامي الإحساس بالذات والتعرف على طبيعتها ودورها المرتقب فى الحياة. هذا عدا كونها مجالا واسعا للتدريب على إعادة ترتيب الأشياء والتعامل معها وفقا لأولوياتها؛ إلى آخر الدلائل المؤكدة أن اللعب ضرورة إنسانية وحاجة ثقافية واستعداد فطرى، ووسيلة تعلم وإدرارك واكتساب للمهارات ونقل للخبرات. الألعاب الشعبية.. شواهد حية فى مسح أولي أجريته على بعض العينات بمناطق متفرقة من محافظات مصر؛ سجل مزاولة أطفال محافظة البحيرة لألعاب، مثل: المنديل والبلى (التى يطلق عليها فى مواطن أخرى: النقرة- المثلث- الترنجيلة). والتريك تراك (التى تلعب فى مناطق أخرى باسم العقلة). ولعبة سيف يد (التى تمارس لاختبار قوة اليد من خلال تكسير أعواد القصب أو الخشب) وألعاب: الأولى والسيجة والمربع والكبة. فيما لاحظ دخول تغيرات على لعبة «النحلة»، برره الإخباريون بانتشار «النحلة» البلاستيكية التى عملت بعض شركات منتجات الأطفال على توزيعها كهدايا داخل أكياس المنتجات الغذائية الاستهلاكية، وبالتالى أصبحت أداة اللعب جاهزة بعد أن كان الأطفال يقومون بصناعتها بأنفسهم، نوى الدوم والخشب ومقدمة عبوات «البيروسول» وبتفننون فى إضافة أبعاد جمالية لها. وفى حى إمبابة، بمحافظة الجيزة سجل مزاولة الأطفال لألعاب الاستغماية (التى تلعب مغناة على إيقاع السمسمية فى منطقة السويس تحت اسم «مندو»). ولعبة كهربا، والنحلة. وفى مدينة شبين القناطر بمحافظة القليوبية سجل مزاولة الأطفال للعبة الفريرة، التى يصنعونها من أغطية زجاجات المياه الغازية بعد تسوية حوافها أو من أزرار الملابس القديمة، ولعبة «البايو». وفى قرية «ميت جراح» بمحافظة الدقهلية سجل مزاولة الأطفال لألعاب الأُولى، والحجلة والسيجة والبلى ولعبة «بلتك» (التى تشبه المصارعة الرومانية). وفى مدينة بنها سجل مزاولة الأطفال لألعاب: الاستغماية والأولى والنحلة والغماز. وفى قرية كفر طحلة، بمحافظة القليوبية أيضا سجل مزاولة الأطفال للعبة «الطاقية ف عب مين»، وفى قرية كفر الجزار التابعة لمدينة بنها سجل مزاولة الأطفال للعبة مختلفة لم يعثر لها على مثيل فى مناطق أخرى وهى لعبة يتنافس الأطفال من خلالها على قذف الأماكن المهجورة بأكبر قدر من الحجارة الصغيرة، وكأنهم يتحدون المجهول الغامض النابع من جوف هذه الأماكن. وفى بحث أجراه الباحث «حسام محسب» بمدرسة «العمرانية المشتركة الابتدائية» بمحافظة الجيزة؛ وجد أن الأولاد من تلاميذ المدرسة يمارسون ألعاب: كهربا و كيكا على العالى والكلب الحيران. ونطة الإنجليز. التى تلعب فى الإسكندرية بعنوان «أولنا اسكندرانى». وكذلك ألعاب البلى وكرة القدم. أما البنات فيمارسن ألعاب: افتحوا لى الباب ده، والأولى، ونط الحبل. إضافة إلى ألعاب مشتركة يمارسها الأولاد والبنات معا، وهى: شد الحبل.والتعلب فات والاستغماية وشد المنديل وكيلو بامية وشبر، شبرين. ومن خلال تجربته فى مسرح الجرن رصد المخرج «أحمد إسماعيل» مجموعة من الألعاب الشعبية ما زال يمارسها الأطفال بمناطق متفرقة من مصر؛ ففى قرية الضبعية بمحافظة الإسماعيلية رصد ألعاب: المروحة، ثبت صنم، وسباق الحجلة. وفى قرية الشواشنة بمحافظة الفيوم رصد ثلاث ألعاب شعبية، هي: الضفدع، عنكب، ولعبة خمسة مليم، التى تلعب فى مناطق أخرى من مصر تحت اسم نطة الإنجليز وهى قريبة الشبه بلعبة عنكب. وفي قرية بلاط بمحافظة الوادي الجديد رصد أربعة ألعاب شعبية مشهورة، هى: شبر وشبرين، الخطاف، التى تلعب في بعض مناطق من صعيد مصر تحت اسم (الحكشه) وتسمى كذلك (العوجة) نظراً لاعوجاج جريدة النخيل المستخدمة في اللعبة، ولعبة الحجلة وهى قريبة الشبه بلعبة (الليم) أو (الأولى)، ولعبة سندوسه، هي لعبة تؤديها الفتيات فقط، وأخيرا لعبة شط وبحر. ما تؤكده الشواهد الميدانية أن الألعاب الشعبية كبقية عناصر الثقافة الشعبية ينتظمها ما يمكن أن يطلق عليه قانون الاتصال والانفصال، وهو قانون يحكم كل منتجات الفولكلور وإبداعاته، أعنى أن هناك ألعابا حية ما زالت تمارس بنفس طريقتها القديمة نظرا لقدرتها على القيام بذات الأدوار التاريخية التى قدمتها للطفل ولم يستغن عنها بمرور الأجيال، وهناك ألعاب اختفت من الحياة لانتفاء الغرض منها أو لتجاوزها بلعبة أخرى أو بإعادة إنتاجها فى لعبة جديدة، وهناك ألعاب تم استحداثها تلبية لحاجات جديدة طرأت على المجتمع، إضافة إلى انتشار اللعبة الواحدة بين أكثر من تجمع ولكن بأسماء مختلفة تراعى ظروف البيئة الحاضنة، بما يؤكد حيوية مشهد اللعب عند الأطفال وثراءه وتنوعه، وحاجته إلى تنميته والاستفادة منه فى خلق إنسان ناضج متوافق اجتماعيا، ومدرب على العمل الجماعى، وهو الدور المأمول لأجهزة الثقافة والتربية والتعليم ومراكز الشباب والرياضة والمؤسسات الأهلية.