هل يتصور أحد... عجيبة الأعاجيب القاهرة المحروسة التى يظن القاصى والدانى أن كل قصص الدنيا قد دارت فى بيوتها. القاهرة... الجميلة الصبية وإن تعدى عمرها الألف عام قد بنت كل هذا التاريخ من البطولات و الحكايات فى مساحة لاتتجاوز 32 كيلو مترا مربعا. هى مساحة صغيرة جدا بلا شك، لتحرسها قلعة وتعيش داخلها أكثر من ألف مئذنة، و تقوم بها ثورات ومعارك، ويقصدها أهالى ووافدون، وتولد وتنتعش فى رحابها أفكار وإبداعات لعلماء وشعراء وباحثين عن الطمأنينة والأمان. لكن ليس الأمر بطول المدينة أو عرضها، هذا هو قدر القاهرة صاحبة الحظوة التى أصدر الخليفة عمر بن الخطاب أوامره إلى قوات جيشه الفاتح عند تأسيس أول عاصمة « الفسطاط» بألا يرفعوا بنيانا فوق القدر، ولكنه فوجئ بخارجة بن حذافة يستأذنه فى بناء غرفة بالطابق الثانى فرد عليه بضرورة مراعاة عدم امكان أى رجل التطلع من كواها إلى المنازل المجاورة، والا هدمها كما يقول المؤرخ ابن دقماق. لم يكن هناك مدعاة لقلق، فالفسطاط مدينة تعرف الطوابق المتعددة، وقد لجأت إلى هذا الحل لزيادة سكانها. وجاءت القاهرة وريثة الفسطاط لتؤكد فكرة المدخل المنكسر الذى يحمى من بداخل الدار من تلصص الأعين، ونجحت فى أن تؤاخى بين مساجدها وأبنيتها الفاطمية الصغيرة، ومساجدها ومدارسها وأسبلتها المملوكية الشاهقة التى تتخللها مآذن نحيلة تشبه القلم الرصاص تنتمى إلى عصر لاحق. أما أحياؤها، فلكل منها نصيب من حكايا القاهرة، فلايزال حى المطرية يحتفظ بشواهد على حضارة فراعنة مصر العظام، ومازال حى مصر القديمة يسمى بمجمع الأديان، ومازال الخليفة والموسكى والسيدة زينب والحسين شهودا على زمن المشايخ والأفنديات وعز مصر المحروسة. حكاية تولد من رحم حكاية، ولهذا كان لابد لبر مصر من امتداد جديد، فى شبرا والزمالك و القاهرة الخديوية ودرتها منطقة وسط البلد صاحبة الملامح المعمارية المميزة التى تنافس عمارة باريس. ولكن هل أنتهت قصصنا، لا أعتقد فمازال لدى بر مصر المحروسة قصص وامتدادات، نجاحات وفشل أنجب عشوائيات. حواديت المدن يمكننا اعتبارها افتتاحية، مجرد بداية كلام حول مصير أكثر من مدينة عربية مثل القاهرة. فمعمار وتخطيط المدن ليس مجرد مراجعات للتراث أو الثقافة، ولكنها قضية سياسية ذات أبعاد اجتماعية. أما تفسيرنا فهو خاص بطبيعة المدينة التى أسسها العرب و المسلمون فى زمن سابق عن ابن خلدون الذى تحدث صراحة عن معنى العمران البشرى. يمكننا أن نفهم أن هذه المدن التى كانت أفضل تعبير عن حضارة ساكنيها قد اختلفت معالمها فى العصر الحديث، حين اتسعت المساحات و ازداد عدد السكان وتغير المعمار الذى يبدو فى معظمه مقتبسا من العمارة الغربية. كل هذا مفهوم، ولكن الهوة تزداد، فلم يعد الأمر مجرد هجر للمبانى الجميلة العريقة صاحبة المشربيات و الحدائق وملاقف الهواء تلك الحيلة التى لجأ إليها المعماريون لتجنب قيظ أيام الصيف الحارة، فقد جاء التعدى والعشوائيات والصراعات المسلحة لينتقص كل ما بقى من رصيد مدننا العربية. تدمير متعمد يبدو أن المدن أصبحت قضية سياسية بامتياز، ففى الأسبوع الماضى تحدث أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية عن تدمير متعمد على يد عصابات الارهاب للمدن العربية صاحبة الطابع و الملامح الخاصة التى تحمل داخلها قصصا و طبقات من التاريخ. فعلى ضفاف النيل و دجلة والفرات أسست أول المدن التى تحتاج الآن لمبادرة من أجل إنقاذ معالمها و مواقعها الأثرية التى قاربت على الاندثار. وكثير من الآثار قد نهبت كما تشهد المتاحف العالمية. كما أن امتزاج الحضارة الاسلامية بالحضارات التى عرفتها من قبل مصر و العراق و سوريا والكلمة له أعتبر امتزاجا استثنائيا لتنجب طابعا معماريا متفردا. ولهذا كان لابد من أن تتبنى جامعة الدول العربية مرصدا للتراث المعمارى والعمرانى استجابة لعدة مبادرات منها مؤتمر الوزراء المسئولين عن الشئون الثقافية عام 2012، وقرار المجلس الاقتصادى والاجتماعى للجامعة عام 2014. ويتحدث عبد الله محارب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو عن هذا المرصد الذى يعد قاعدة تجميع بيانات تتبادل الدول العربية من خلاله المساعدات بالنسبة للمناطق التى تعانى من تدمير لمعالمها الآثرية بسبب القصف و الحروب. كما أن تبادل المشورة وطرح الحلول يمنح الفرصة لوضع سياسات متوازنة و واقعية لحماية التراث. ولهذا والكلمة له أتوقع أن تساند مصر المرصد بمنحه المعلومات والبيانات حول مواقعها الأثرية المتعددة. والمعروف أن عددا من الآثار فى مصر يعانى من سكنى المواطنين فى مناطق القاهرة التاريخية وخاصة فى الجمالية وحى السيدة زينب. فمن المفترض أن تدخل مثل هذه المبانى الأثرية فى عملية التنمية المستدامة و الاستفادة منها فى مجال السياحة. ومن المعروف أن فرنسا يزورها ملايين السائحين كل عام، ونحن نجهل فى وطننا العربى المعنى الحقيقى للسياحة الثقافية. كما أن جريدة «الأهرام» وغيرها من وسائل الاعلام يمكنها أن تساند فى حركة الوعى لدى العرب، فما يحدث لآثارنا شىء مخجل. ولهذا أدعو وزارات التربية والتعليم من خلال مؤسسة «الأهرام» أن تضيف مادة الآثار إلى المناهج الدراسية واعتبارها مادة نجاح حتى يتعرف الصغار على تاريخ بلادهم و يكونوا أكثر ارتباطا بهويتهم الوطنية. من المحيط إلى الخليج يلعب الامتداد الجغرافى والتنوع البيئى دورا كبيرا فى المشهد العربى كما تقول د.حياة القرمازى مديرة إدارة الثقافة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الألكسو الذى يجمع بين خمس مجموعات وهى: مجموعة وادى النيل، و الهلال الخصيب، والمغرب العربى، والقرن الأفريقى، وشبه الجزيرة العربية. فتجذر الثقافة والحضارة فى الوطن العربى أنجب أشهر المدن، ولكن الامتداد العمرانى و تزايد البناء العشوائى أضر بكثير من الآثار العربية، ونضيف إليهما النزاعات المسلحة والانفلات الأمنى. ورغم أنه توجد لدينا ترسانة من المواثيق و الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية التراث مثل ميثاق البندقية عام 1964، واتفاقية لاهاى عام 1954، واتفاقية التراث العالمى لعام 1972، واتفاقية حماية التراث الثقافى غير المادى عام 2003 والتوصيات والبيانات الأممية وأهمها الخاصة بالمشاهد الحضرية التاريخية لعام 2011 التى صادقت عليها الدول العربية فإن الأمور لم تتقدم خطوات للأمام. والهدف الأساسى من المرصد هو تنمية القدرات العربية فى مجال التراث المعمارى من خلال تطوير قوانين المحافظة على التراث و حماية المدن المهددة فى فلسطين و العراقوسوريا واليمن وليبيا، و أخيرا توظيف هذا التراث للاستفادة منه. ولهذا يمكن اعتبار المرصد آلية فنية تستأنس بها الدول العربية فى وضع استراتيجية مشتركة و إنشاء لجنة لمتابعة العمل و توحيد قواعد البيانات. ومن المفترض أن ينضم لعمل المرصد شركاء منهم اليونسكو والمنظمات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والمجتمع المدنى فى الدول العربية. فوجود بنك موحد للتراث يعنى أن يكون العالم العربى على معرفة بتاريخه، بل أيضا مستقبله.فالتراث لا يعنى الماضى ولكنه رؤية قد تتكامل مع أفكار أخرى تعنى من يهتمون بمستقبل المدن. لانريد أن ننهى الحديث عند هذا الحد، فهناك حاجة للبحث عن الهوية العربية الاسلامية كما طالبت كلمة الأهرام على لسان محمد عبد الهادى علام رئيس التحرير فى اليوم الاعلامى حول المرصد التراثى. فهذا المرصد يتابع الآن المدن العربية المتميزة ومنها المسجل على لائحة التراث العالمى مثل طيبة وصنعاء وتدمر وبتراء و بعلبك والقدس كلها مدن تمثل فى حقيقتها نقلة فى تاريخ التراث والموروث العربى. فمنذ سنوات تابعت جامعة الدول العربية إصدار أجزاء مهمة من موسوعة تاريخ الأمة العربية التى تضم التاريخ العربى المتفق عليه لتقرأه الأجيال الجديد. ومنذ سنوات ومنظمة الإسيسكو التابعة لمنظمة التعاون الاسلامى تلاحق قضية القدس فى ربط بين الآثار وحركات الاستيطان من خلال محاور الحفريات الاسرائيلية عند محور الحرم الشريف وحارة اليهود وسلوان. ولا ننسى جهود مركز التراث الحضارى والطبيعى التابع لمكتبة الاسكندرية لإصدار مشروع ذاكرة العالم العربى، وما قدمه اتحاد الآثاريين العرب لتوضيح حال آثارنا العربية. ولكن كلها جهود نتمنى أن تتحد وأن تثمر، ومنها هذا المرصد، فمدن العرب لابد وأن تعود من جديد وكأنهن صبايا لم يعرفن تجاعيد الزمن. والعرب كما نراهم لابد وأن يعيدوا قراءة تاريخهم ، ويفهموا حضارتهم حتى لا يأتى من يلقننا درسا قاسيا ما كنا لنعرفه لولا تباطئنا فى فهم ذاتنا القومية. ولهذا ومن الأهرام نطالب بقراءة جديدة لمناهج التاريخ، ونتفق مع الألكسو فى وضع مادة الحضارة كمادة للنجاح لا تفرض على المناهج العربية بوصفها حملا يضاف إلى كاهل الطالب والأسرة، ولكنها افتتاحية لمعرفة جديدة واكتشاف للذات التى تكاد تضيع هويتها بين ما هو جامد ومتطرف وما هو غربى بعيد عن قيمنا وما تعلمنا.