"الغدر"، أو "عدم الوفاء بالعهد"؛ خيانة قبيحة، وجريمة حقيرة، وإثم كبير، وعلامة للنفاق.. فخطره عظيم، وشرُّه وخيم، وسيئاته مُضاعفة.. ومن أسف أن رقعته تتسع بين البشر، برغم أنه محرَّم، أشدَّ التحريم، وبشتى صوره، في الإسلام. قال عنه علي بن أبي طالب: "جانِبُوا الغَدْرَ؛ فَإنَّهُ مُجانِبُ القُرآنِ". وقال عنه محمد بن كعب القرظي: "ثلاث خصال من كُنَّ فيه، كُنَّ عليه: البغي، والنَّكث، والمكر". وفي المقابل، فإنَّ الوفاء بالعهدَ مسؤوليةٌ كبيرة أمام الله، للإنسان عن التزاماته، وما يقطعه على نفسه من عهود؛ أيا كانت: كلمة أو عقدا أو حتى موعد. وأيا كان طرفه الآخر: مسلما أو غير مسلم. وبحسب "الراغب": "لمَّا كان الوفاء سببًا لعامة الصلاح، والغدر سببًا لعامة الفساد، فقد عظَّم الله أمرهما، وأعاد في مواضع عدة ذكرهما. فقال تعالى: "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا".(البقرة: 177). وقال: "وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً". (الإسراء: 34). وقال: "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ".(النحل:91). وورد التوجيه الرباني للنبي، صلى الله عليه وسلم، بأنه إذا استشعر من قوم خيانة للعهد، فلينبذه إليهم، وليعلمهم بأنه غير ملتزم به، "عَلَى سَوَاء"، أي: "يستوي هو وهم في ذلك". قال تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ".(الأنفال: 58). أي: أن اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ بل يبغضهم. وفي السنة النبوية، ورد وعيد شديد عن الغدر.. فعن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان".(متفق عليه). وفي "صحيح الجامع" للألباني، عن أنس بن مالك، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند استه". وفي "صحيح مسلم" :"لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ". قال ابن كثير: "الحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيًّا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علمًا منشورًا على صاحبه بما فعل، وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر، ويخزيهمالله على رؤوس الخلائق". وعلَّق ابن حجر في "فتح الباري" بالقول: "الحكمة في نصب اللواء أن العقوبة تقع غالبا بضد الذنب، فلمَّا كان الغدر من الأمور الخفية؛ ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة، ونصب اللواء أشهر الأشياء عند العرب". وقال النووي (في شرح "صحيح مسلم"): "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ". أي: علامة يشهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء الشهرة؛ وفي هذه الأحاديث بيان غِلَظ تحريم الغدر، وظاهره أن لكل غدرة لواءً فيكون للواحد ألوية بعدد غدراته". وفي الحديثِ القدُسيِّ الصحيح: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ". الحديث. (أي: عاهَدَ وأقسمَ باللهِ على الوفاء، ثم غَدَر). وروى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". ولم يكن الغدر من شيم الأنبياء أبدا، فهم المُؤتمنون على وحي الله، الموفون ببلاغه. وفي حديث هرقل مع أبي سفيان، عندما سأله عن النبي: "فهل يغدر؟ قال: لا، ثم قال هرقل: "وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون". وهكذا، كان من وصايا النبي، صلى الله عليه وسلم، لأمرائه على الجيوش: "َولاَ تَغْدِرُوا". فما هو الغدر؟ اصطلاحًا هو: "نقض العهد، وترك الوفاء به". وقيل: "هو نقض العهد مطلقًا، في لحظة لم تكن متوقعة، ولا منتظرة". وفي اللغة يقال: "غَدَرَه، وبه، غَدْرًا، وغَدَرانًا، إذا نقض عهده، وترك الوفاء. وهي: غَدُور، وغَدَّار، وغَدَّارَة. وهو: غادِرٌ، وغَدَّار، وغِدِّير، وغدور، وغُدَرٌ". ويُروى أنه حين رأى أبو ذر، معاوية بن أبي سفيان، يبني قصراً باذخاً؛ قال له: "إذا كان هذا من مالك فهو الإسراف، وإن كان من مال الأمة فهي الخيانة". وحذَّر الحكماء من أن: "الغدرُ يُسْرِعُ إلى الهَلَكِ، ويُفْضِي إلى زوالِ المُلْك". وقالوا: "لمْ يَغْدِرْ غادِرٌ قطُّ إلَّا لِصِغَرِ هِمَّتِه عن الوفاءِ، واتِّضاعِ قَدْرِه عن احتمالِ المكارِه في جنْبِ نيْلِ المكارِم". وقالوا: "أقْبَحُ الغَدْرِ إذاعَةُ السِّرِّ". وأخيرا قالوا: "الغَدْرُ بِكُلِّ أحَدٍ قَبيحٌ، وَهُوَ بِذَوي القُدْرَةِ وَالسُّلْطانِ أقْبَحُ". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;