الأمر الذي لا خلاف عليه, أن ثورة 25 يناير لم تكتمل ولم تحقق أهدافها التي تجسد روح مصر, وأماني مواطنيها التي اعلنت في الثمانية عشر يوما الأولي من الثورة. وما كان يمكن للثورة أن تكتمل, إلا إذا أديرت شئون البلاد, والتعامل مع أحداثها باعتبار ما حدث هو ثورة, وليس مجرد هبة غضب, يمكن إطفاء شعلتها, بحركة تصحيحية محدودة. ويخطئ من يحاول اقناع نفسه بذلك, فما حدث في25 يناير كان مدفوعا بطاقة دافقة من عاملين يحركانها معا, الأول ان ما جري في مصر, هو فعل جماهيري تراكمت في وعيها أسباب تصنع مائة ثورة, وليس ثورة واحدة, وهو حدث له سوابق مماثلة في تاريخ مصر الحديث, أبرزها ثورة. 1919 التي خرجت جماهيرها بنفس الطريقة وبلا قيادة مركزية في كل مدن وقري مصر, متمسكة بهدف وطني التف حوله الجميع, لكنهم عوضوا غياب القيادة, باختيار سعد زغلول رمزا وزعيما للثورة, بناء علي مواقفه الوطنية الصريحة. العامل الثاني.. ان الثورة جاءت تتحرك ضمن تيار التغيير الذي اجتاح العالم من بدء عصر ثورة المعلومات في أول التسعينيات, بما حمله من تغييرات جذرية في مفاهيم الحكم والادارة, والعدالة الاجتماعية, واعتبار الديمقراطية شرعية أي نظام حكم, وإنهاء حالة من العزلة فرضت علي مصر, تحول بينها وبين التأثر بقوانين العصر. وقامت الثورة تعلي صوت الشعب مناديا بإسقاط النظام, ليس لأفراد علي قمة السلطة وإنما كمنظومة كاملة للتفكير والسلوك. لكن شيئا من هذا لم يتحقق مما يعني ان أسباب الثورة مازالت قائمة, ولما كانت الثورة بطاقتها الكامنة هي فعلا مستمرا, فإن المشهد السياسي في مصر رغم أي شيئا قد دخل مرحلة من التفاعل بين عناصر متعددة, بعضها يتناقض ويتصادم مع البعض الآخر, وبعضها يتلاقي ويتواءم مع عناصر أخري. وفي قلب عملية التفاعل هناك من يطمح في الإبقاء علي النظام السابق, وهناك من يدعو لاسقاط النظام, وإعادة بناء الدولة, علي أسس صحيحة. ان حالة التفاعل هذه تنتقل بنا, إلي المرحلة الانتقالية الثانية والحاسمة, إلي أن ترسو سفينة الوطن, علي شاطئ اكتمال الثورة, وفق المبادئ المعلنة في الثمانية عشر يوما الأولي من الثورة. معني ذلك ان هذه التفاعلات, إذا قارناها بتجارب ثورات أخري في العالم يفترض أن تعيد تشكيل الخريطة السياسية بكاملها, من داخل المشهد السياسي والذي تنشط فيه مجموعة من القوي مثلا: 1- شباب الثورة الذين تعرضوا لخطط ترمي إلي دفعهم إلي الإحباط, وتصويرهم في نظر الناس علي أنهم المتسببون في المشاكل التي يعيشونها, بينما لم يكن لهم نصيب في الحكم, ولا ناقة لهم ولا جمل, ومع ذلك فإن الإحباط لم يصل بهم إلي الانسحاب من المشهد ولا تزال لديهم القدرة علي استجماع طاقتهم من جديد. 2- قوي منظمة ارتكبت أخطاء فادحة, أربكت العملية السياسية برمتها, حين حاولت ان تجعل لأهدافها الخاصة الأفضلية علي الأهداف الوطنية الجماعية لعموم المصريين ولعلها تكون قد استخلصت الدروس والعبر من وقائع الفترة الأخيرة. 3- حركات سياسية معظمها ليست لها انتماءات حزبية راسخة, افتقدت في الفترة الماضية القاعدة التنظيمية التي تمكنها من ان تكون فاعلة, في ضبط التوازن في المشهد السياسي ولعلها تعيد تنظيم نفسها بشكل يجعلها فاعلة. 4- بقايا النظام السابق, مدعومة بالتنظيم السري شبه العلني لمرتزقة البلطجية, الذين كان أمن الدولة يوظفهم في تزوير الانتخابات والتحرش البدني بالحركات الاحتجاجية, والذين استمر دورهم بعد الثورة تستخدمهم قوي الثورة المضادة. ولم يكن يخفي علي وعي المصريين الذين خرجوا في 25 يناير من أجل التغيير, وكذلك من كانوا يتابعون ما يجري في مصر, من مراكز الرصد والدراسة العلمية المجردة في أوروبا وأمريكا. من ان ثورة مضادة تدار بخطط محكمة, ابتداء من يوم 11 فبراير 2011, لجعل الحياة اليومية المعيشية للمصريين, حالة لا تطاق ولا تحتمل.. وهذه المراكز نظمت ندوات وورش عمل, وحلقات دراسية, اتفقت جميعها علي أن مصر سوف تتضمن وتزدهر داخليا, وتستعيد مكانتها اقليميا ودوليا, لكن ذلك في تقديراتهم مشروط باسقاط النظام, وليس بمجرد وإزاحة رئيسه, واستكمال كامل الأهداف التي اعلنت في ميدان التحرير. هنا لا نستطيع أن نتجاهل أن القوي الكبري خاصة أمريكا بالاضافة إلي إسرائيل, كانت ولاتزال تترقب ما سوف تنتهي إليه الثورة, سواء بانتصارها, أو بتعويقها بخطة الثورة المضادة لكي تحدد بعدها اتجاه سياساتها نحو مصر والعالم العربي, ورغم إقرار هذه المراكز بخطورة ماتفعله الثورة المضادة, إلا أنها ظلت متمسكة باقتناعها, بأن ما حدث في مصر ثورة متكاملة, سوف تفرض إرادتها في النهاية, وان سلوك الثورة المضادة يبقي عبارة عن ارتعاشات جسد موصوم بالعداء للشعب, والولاء لمصالحه الذاتية. في نفس الوقت فإن إسرائيل اعتبرت ان انتصار الثورة علي هذه الصورة يمثل أكبر تهديد لها, لأن اكتمال أهدافها, سوف يعدل ميزان القوي لمصلحة مصر والعرب, وهو الميزان الذي ظل مائلا لمصلحة إسرائيل منذ قيامها عام. 1948 ولم يستطع قادة إسرائيل إخفاء طبيعة علاقتهم بمبارك والتي وصفوها بالتحالف الاستراتيجي. ان نتائج اكتمال اهداف الثورة, ستكون متعددة الأبعاد, فهي تبدأ بمتانة البناء في الداخل, ثم بما تشعه مصر في هذه الحالة علي محيطها الإقليمي, والذي سيؤدي إلي استعادة زمام القرار السياسي, إلي يد الشعوب, بما يعبر عن الأهداف الوطنية الحقة, وإعادة مصر والمنطقة العربية إلي احتلال مكانتها في إدارة النظام الدولي الجديد, والذي كانت مستبعدة من ترشيحات المؤسسات الدولية لها قياسا علي افتقاد نظام الحاكم في مصر للشرعية بمقاييس هذا العصر المتغير, وعزلتها عن ركب الدول الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية. المزيد من مقالات عاطف الغمري