بقدر ما كانت الانتخابات الرئاسية الامريكية بحثا عن المستقبل للأمريكيين والعالم معا، كانت أيضا تقييما لميراث الرئيس أوباما متمثلا فى المرشحة هيلارى كلينتون التى نظر اليها الجميع كامتداد لهذا الميراث. بينما طرح المرشح ترامب - بغض النظر عن اللغة الخشنة والصادمة فى مفرداتها ومضمونها والتى استخدمها كثيرا حتى ضد فئات عريضة من الأمريكيين أنفسهم وضد رموز المؤسسة الحاكمة - تصورا مختلفا وعد فيه الأمريكيين باستعادة عظمة بلادهم المفقودة نتيجة سياسات أوباما من خلال الوعد بتطبيق عدة سياسات اقتصادية ومالية واجتماعية تعيد بناء البلاد وتنقيتها من فئات مختلفة من المهاجرين تعيش على الأراضى الأمريكية بعضها بطريقة مشروعة وبعضها غير ذلك، ويُنظر إليها باعتبارها سببا جوهريا وراء تدهور أوضاع الطبقة الوسطى وتهديد أمن البلاد وتعريضها للخطر. وهكذا وظف ترامب هاجسين كبيرين لدى قطاعات كبيرة من الأمريكيين لاسيما العمال البيض وذوى التعليم المتوسط والمنخفض، وهما عاملا الاقتصاد والأمن مما أثر على فئات واسعة ذهبت وأعطت صوتها لترامب عن اقتناع بجدوى التغيير وتجريب سياسات جديدة تماما مصنوعة خارج المؤسسة الرسمية التى وصفها ترامب مرارا بالفساد، وجدوى اختيار رئيس جديد يبدو فى كلماته قويا. مثل هذا الاختيار يعكس المزاج السائد والراهن فى ثنايا المجتمع، كما يعكس أيضا ثوابت موجودة فى المجتمع الأمريكى مهما قيل إنه تم تجاوزها أو أنه قد خفت تأثيرها، وأهمها ميراث عنصرى يفرق بين الامريكى الأبيض والامريكى من ذوى البشرة الملونة ومن أصول عرقية مختلفة، وميراث محافظ تجاه المرأة، وميراث انعزالى يرى فى التخفف من أعباء قيادة العالم ومتابعة المصالح الأمريكية خارج الحدود بأقل التكاليف الممكنة هو الخيار الأمثل، وميراث استعلائى يعتقد أن أمريكا يجب أن تظل القوة الأولى فى العالم وأن يكون لديها الأفضل فى كل شيء حسب تعبيرات ترامب نفسه. واخيرا ميراث واقعى براجماتى يسعى الى تحقيق المصلحة الذاتية وليس الالتزام بالمبادئ، التى وصفها ترامب فى إحدى خطبه بأنها للفاشلين وأن الأفضل هو السعى وراء المصلحة حتى وإن تطلب ذلك تغييرا فى القول ومرونة فى الفعل.وواقع الحال أن هذا الميراث الكامن فى المجتمع الأمريكى وعبر عن نفسه بقوة فى انتخاب دونالد ترامب، الذى وصُف عن حق بالمرشح الشعبوي، موجود أيضا وإن بدرجات مختلفة فى العديد من البلدان الأوربية والبلدان التى تتعدد فيها الأقليات ويعيش فيها مهاجرون من بقاع العالم المختلفة، كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وبروكسل وغيرهم من بلدان الاتحاد الأوروبي.وهى الدول التى تواجه تقريبا الإشكاليات نفسها التى عبر عنها ترامب فى حملته الانتخابية .وإذا وضعنا فى الحسبان ما يعرف بنظرية الدومينو، وأن تطورا فى بلد ما أو منطقة ما حدث على نحومعين نتيجة ظروف وعوامل متوافرة بالشكل نفسه فى مناطق أخري، فمن الطبيعى أن تحدث النتائج نفسها. وهنا تبدو فرص التيارات اليمينية فى فرنسا وألمانيا وبلجيكا والدنمارك أعلى فى الانتخابات المنتظرة فى العامين المقبلين، وذلك مقارنة بالانتخابات الماضية التى فاز فيها تيار يمين الوسط المنفتح على الأقليات والعالم معا. وبالقطع فإن نجاح ترامب كرئيس فى تطبيق بعض وعوده، لاسيما ما يتعلق بالحد من قدوم المهاجرين وخلق وظائف فى الداخل من خلال استعادة الصناعات التى خرجت من البلاد الى الخارج بسبب سياسات الضرائب واتفاقيات التجارة الحرة، والحد من المغامرات الخارجية ومحاصرة المنظمات الإرهابية العابرة للحدود بداية من داعش ومرورا بفروعها وفروع القاعدة فى بلدان أخرى بالتعاون مع حلفاء إقليميين موثوقين، سيؤدى ذلك تدريجيا الى تعزيز فرص اليمين فى بلدان أوروبية مختلفة، وعندها سيُعاد تأسيس العلاقات الأوروبية الأمريكية بناء على قواعد جديدة، وقد تشهد مجالات تعاون جديدة يتشارك فيها اليمينيون على الجانبين، وفى الوقت نفسه يُعاد النظر فى الآليات والمؤسسات التى بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية، وفى مقدمتها حلف الناتو. المهم فى هذا المشهد أن ينجح ترامب فى امريكا، وتلك بدورها لن تكون يسيرة، فقد بدأ البعض يتحدث فى داخل الولاياتالمتحدة عن كيفية إسقاط ترامب وإفشال سياساته ووضع العراقيل أمامها، والمتوقع أن يكون هناك قدر هائل من الترصد الإعلامى لكل خطوة يقدم عليها ترامب بداية من ترشيحات أعضاء إدارته ومرورا بالتعديلات القانونية التى يسعى الى تمريرها، ونهاية بالتفاعلات الدولية التى سوف يقدم عليها. ومن أبرز ما سيقدم عليه ترامب كرئيس هو إعادة النظر فى اتفاقية التجارة الحرة مع كل من المكسيك وكندا، وتعديل سياسة بلاده من المناكفة السياسية والاقتصادية والعقوبات مع روسيا الى التعاون معها فى ملفات مختلفة أبرزها محاربة داعش ومنظمات القاعدة الارهابية أيا كان اسمها فى سوريا، ووقف سياسة تغيير الانظمة. وهى السياسة التى تسببت فى كوارث وتعقيدات شديدة وخراب لا حدود له فى أكثر من بلد فى العالم كله، ونلنا نحن العرب من تلك السياسة التخريبية نصيبا عظيما نراه يوميا فى العراقوسوريا واليمن وليبيا وبعض تأثيراته تحدث فى سيناء المصرية. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب