لا بقاء للأوطان إلا ببقاء الوعى بها وبقيمتها فى عقول أبنائها، فإذا انطمست الذاكرة، وتم محوها ضاع الوطن، لأن الوطن فى الحقيقة أعمق بكثير من أن يكون هو الأرض والثروات والتاريخ والعمق والمكانة، إنه هو الوعى عند أبنائه بذلك كله، والإلمام بضخامة ذلك، فيولد فى النفس شعور بالرضا والفخر بأن يكون الإنسان جزءا من هذا، وموجودا فيه، فيولد فى النفس أيضا الشعور العميق بالانتماء لهذه المنظومة، فيوجد من مجموع ذلك كله ما يسمى بالوطن. والرهان بين مصر وبين أعدائها هو أن تولد أجيال تختزل مصر بكل ضخامتها وجلالها فى مجرد كلمة خاوية لا عمق لها ولا جذور، فيهون على النفوس أن تتنكر لها، وأن تنخلع منها، وأن تستسيغ لها الألم، وأن تعاملها بجفاء، وإلا تتحمل معها لحظة ألم أو شدة. وبمقدار ما يبذله كل جيل فى معالجة ذلك، وتوريث الوعى العميق بقيمة الوطن وجلاله إلى الجيل الذى يليه، فإن الوطن ينتقل بأمان من جيل إلى جيل، ويظل مرفوع الرأس. ولهذا قال الدكتور حسين مؤنس رحمه الله: (كل شيء على هذه الأرض يُشْرَى مرة واحدة، إلا الأوطان، فإن كل جيل من أجيال الأمة لابد أن يؤدى ثمن وطنه، لابد أن يضحى ويستهدف للموت ليثبت حقه فى أرضه، فإذا أهمل أمر هذا الدفاع جيل من الأجيال ضاع الوطن). وعبارته هذه عبارة صادقة ومنيرة، ولابد لكل جيل بالفعل من أن يؤدى ثمن الوطن، وأن يبذل الجهد الخارق فى سريان قيمة الوطن إلى الأجيال التالية، ولابد من ألا تختل أبدا هذه العملية الجليلة فى نقلها عبر الأجيال حتى لا يتفلت منا جيل، فيخرج ممسوح الذاكرة، منقطع الجذور. إن مصر فى حقيقتها معنى مركب، ومجدول ومضفور من مكونات فى غاية العميق، إنها أرض طيبة، ومكان عبقرى فريد، مختار بعناية، بحيث لو أننا كمصريين أردنا أن نختار لها مكانا على الخريطة لما وجدنا لها مكانا أفضل ولا أكثر إبداعا مما هى عليه، حتى صارت جسرا ومعبرا بين قارات وحضارات وأمم وشعوب، تتقاطع فيها الأجناس والأعراق، ويضطر العالم إلى ألا يتجاوزها لما أودعه الله فيها من مركزية جاذبة للعرب والمسلمين والمسيحيين، وفيها تجلى الله دون غيرها من بقاع الأرض، وأوى إليها الأنبياء والرسل، والحكماء والفلاسفة، ووقفوا قبل أن تولد الفلسفة ليتأملوا الحكمة والتقدير والنسب الهندسية التى بنى بها الهرم، مما يكشف عن عقول عبقرية سابقة قطعت شوطا بعيدا فى علوم الحضارة والمعمار، ومما يكشف عن أطروحة فلسفية سابقة، برزت منتجاتها فى هذا الجسم المشيد الذى يسمى الهرم، وتظل هذه العبقرية فيها إلى أن تبنى مسجد السلطان حسن الذى هو هرم مصر الرابع، وإلى أن يخرج من أرضها أمثال زويل ومصطفى السيد، إنها نمط فريد من المكانة والمكان، والعقول والعبقريات والمواهب، تقوى وتضعف، وتزدهر وتتراجع، وتمر بأزمات وآلام، لكنها تمتلك سر الخلود ومفاتيحه فلا تموت. وكلما خرجت الأجيال وهى تدرك عنها ذلك افتخرت بها، وآمنت بقيمتها، وتحملت معها الشدائد، ولا ترضى لها الألم ولا الحزن، وفى المقابل إذا خرج جيل ممسوح الذاكرة، لا يفهمها ولا يعرف لها قيمة، فإن ثقته بنفسه ووطنه تهتز إلى أقصى حد، ويتوقف عن أزماتها ولا يرى جلالها، فلا تتعادل الأمور فى نفسه وفهمه، فتغلب عليه الأزمات فيغرق فيها وتختنق روحه. إن الرهان كله على أن ننجح فى أن نكشف للأجيال القادمة أن هذه الأرض الكريمة ذات جلال ومقدار، وهى أرض تكرم من أكرمها، وتحفظ له الود، وترد له الجميل بأضعاف ما بذل لها من الجهد، فقط إذا فهمها، وآمن بها، وعرف قيمتها، وسعى فى رفعة شأنها، ودفعها لتتجاوز أزماتها. وكما بدأت بعبارة لحسين مؤنس فإننى أختم بعبارة خالدة له أيضا، قال: (مصر عاشت تاريخها كله على القلائل، الذين فهموها جيدا، وأحبوها فى عمق، سواء كانوا عباقرة أم ناسا بسطاء) لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى;