حدث أن تّفوهتْ المطربة صباح،، في إحدى الجلسات الخاصة بلبنان، ببعض ما يُسئ لمصر، وكان هناك مسئول مصري من بين الجالسين. عاد ذلك المسئول فوبخه الزعيم عبد الناصر على تقاعسه عن الرد.وحدث أن ردت الفنانة تحية كاريوكا في جلسة أخرى في مكان آخر فلاقت كل الاستحسان من ناصر الذي بلغه ما ردت به حق الغائب. حدث هذا وذاك يوم أن كان المصري يلقى كل الترحاب في أي بلد أوروبي.. كان يُستقبل من الآخرين بكلمات من قَبيلْ: أوه.. ناصر(!) , ومرّ الزمان، ودار.. ودارت الأيام على رأي ثومه. لكن يبقى السؤال، وهو: لماذا يسيئون لمصر؟ ولأن مصر لدينا هى غير رئيسها، فنسأل أيضاً: لماذا يسىء البعض من غير المصريين لرئيس مصر؟ مالهم وماله؟ طيب: لماذا تأخذ الحِمية المصريين حيال أي شتيمة أو سُباب لمصر أو لرئيسهم، وهم ما فتئوا يشتمون بما هو أقذع؟ لدى المصريين مثل عجيب: «أدعي على ابني وأكره مَنْ يقول آمين» إنه لتركيب عجيب في شخصية الإنسان المصري، التركيب المعجونة به (روح مصر). تركيب عجيب. وإلا فقل لي: كيف يبكي الأستاذ هيكل في سجنه عندما علم بنبأ مقتل الرئيس السادات (كان السادات قد سمح لنفسه قبل أن يسجن هيكل ولم يتورع كرئيس جمهورية عن كيل السُباب والقذف له علانية في خُطبه إلى حد الإسفاف والهبوط باتهامه بأنه لا يصوم رمضان...الخ) فما الذي جعل هيكل ينسى أي ضغينة تجاه السادات، فيبكيه في محبسه؟ وما الذي جعل كثير من اليساريين يبكون ناصر ويترحمون عليه .وهو الذي اعتقلهم لسنوات؟ وما الذي يجعلني شخصياً كغيري يكره أن يُشتم السادات من غير المصريين؟ روح مصر، تنظر إلى الرئيس أي رئيس، حتى ولو اختلفت معه، بوصفه قد ورث (جينا) بتعطيش الجيم من مينا، وتحتمس الثالث، ورمسيس الثاني ... الخ مصر، مكانتها تعلو أحيانا مكانة أي شيء في نفس المصريين، وتعلو مكانتها لديه أحيانا فوق والديه (أبوه وأمه) وإلا فأرجو أن تفسر لي: لماذايحتد المصرى ويغضب إذا سبيتَ مصر بأكثر مما يحتد لأى شئ آخر ؟ وقد يسامحك إذا سببتَ والديه، وحتى أمه، وهى عنده أقدس من أبيه. لكنه لن يسامحك أبداً إذا ما وجهت سبابك لمصر، وإن كان في الغُربة لهانتْ عليه غُربته، وتشاجر معك وإن أدى ذلك إلى ترحيله فوراً من بلاد (الكبسه والمندي أو الحنيذ إلى بلد الفول والطعمية) (!) هو ورث، وورث معه (السيد الرئيس) الجين العجيب من (مينا). جاء مينا، وقد كانت مصر مقسمة إلى أقاليم، ولكل إقليم إلهه الذي يعبده. وكان لكل إله رمز عجيب: جعران سحليه قط تمساح كوبرا... الخ فحدث أن اتفق المصريون على الوحدة، مع التسليم بالقداسة والاعتراف لكل إله: أنتَ لك جُعرانك، ولي سحليتي (لا تضحك مني) لكنهم كانوا يعلمون أن هناك إله واحد أحد، موجب الوجود (أوجد ذاته بذاته).. وكان لديهم نسق التثليث، ومنها مثلا: ثالوث (متيليس) بالقرب من بلدة فوه والذي فيه: أوزوريس/ الأب إيزيس/ الأم حور/ الإبن. وثالوث (منف) والذي فيه: بتاح/ الأب وهو إله منف الأعظم سخمة/ الأم وهى الآلهة اللبؤة نفرتم/ الإبن..الخ.. سلّموا لبعضهم البعض بآلهه صغيرة يعلوها إله واحد أعظم، في سبيل وحدة مصر، فكان أن وحدَ (مينا) القطرين القبلي والبحري في وحدة واحدة. ولأن مصر مطمعاً للآخرين هكذا هى بطبعها وطبيعتها وغناها فقد غزاها الهكسوس، وبقوا هنا إلى أن قام أحمس بطردهم إلى ما وراء فلسطين. منذ حينئذٍ، تعلم المصري مفهوم «المجال الحيوي» وإنْ باسم غير هذا الإسم. أدرك أن سلامة بلده مرتبط بنوايا وسلوك الممالك في الشام، وأدرك أن سيناء هى بوابته الشرقية. لسوف يتعزز مفهوم «المجال الحيوي» مع تحتمس الثالث، ورمسيس الثاني (اللذين حرصا على أن يكونا في مقدمة جيوشهما إلى بلاد الشام لدرء كل خطر عن مصر) . فمن ذاك الذي يكون حارسا وديدبانا على هذا المجال الحيوي؟ من غير رئيس مصر؟ يتّقول البعض بأن المصريين يسحبون قداستهم لرؤسائهم من قداستهم للفرعون المعبود منهم. هذا غير صحيح بحسب ما نرى بل لأنه مرتبط في أذهانهم بذلك المجال الحيوي أو أمنها القومى لذي لا ينفصم عن سلامة وطنهم ووحدة أراضيه. وعليه، فمن يسب مصر أو رئيسها أو يسخر منهما، فكأنه قد نظر شذراً إلى مجرد سلامة جدران مصر الأربعة، وهو مما لا يتسامح فيه أي مصري، وإلا لتسامح في مصيره. لقد ارتضى تعدد الأديان في سبيلها. وكان هو مخترع الضمير، بمثلما كان مهبط الديانات. جاءه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فلم ينبس ببنت شفه. جاء وخرج محملا من خيرات مصر، ومتزوجا من إحدى بناتها. مكث في مصر لسنوات، ولم يفكر في أن يدعوها لما كان يدعو إليه في بلاد النهرين وتسبّب في محاولة إحراقه بالنار التي جعلها الله بردا وسلاما عليه. وجاءها النبي يوسف، من البدو، فاستوزرته للزراعة. وجاءها النبي موسى، فاستبدّ به الشعور بالدونية وبأنه لن يفقه أي كلام أمام تحضّر فرعونها. وجاءها النبي عيسى في حِجر العذراء، محتميا بها، وخرج عليه منها السلام. ومن قبل، جاءها الأسكندر الأكبر، فاحتمى بكهنة آمون في واحة سيوه عندما أدرك أنه فى بلدٍ مثل مصر. فكيف بعد كل هذا لم يفطنوا للمعنى الدال، أن ليس بثلاجة رئيسها سوى الماء لعشر سنين؟