هل تنجح القيادات الدينية فى نبذ خطاب الكراهية، والتعاون من أجل إحلال السلام فى العالم، أم يستمر ملايين الأبرياء محاصرين بين مطرقة الإرهاب وسندان الإسلاموفوبيا، فى ظل التحديات التى يواجهها الجميع، والحلقة المفرغة من العنف والتطرف التى تلاحق العالم فى كل مكان؟ سؤال محورى حاولت الجولة الثالثة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب التى شهدتها مدينة جنيف على مدى ثلاثة أيام الإجابة عنه، وتلمس السبل نحو المساعدة فى نشر السلام والاستقرار، وهو حوار يكتسب أهميته من مشاركة طرفين أساسيين يمثلان أكبر المؤسسات الدينية فى الشرق والغرب وهما: الأزهر الشريف ومجلس الكنائس العالمى. ولذلك كان من الطبيعي أن تتركز المناقشات خلال اللقاء على الدور الحيوي لأتباع الأديان والقادة الدينيين في صناعة السلام، وكذلك العلاقة بين الفقر والعنف المرتبطين بالدين، وأن يكون هناك إجماع على ضرورة نشر القيم الدينية والتعاون بين أتباع الأديان باعتبار أن ذلك وسيلة لمكافحة التطرف، وبعث الأمل لدى الشعوب، والدعوة إلى تمكين الشباب ليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم، وأن يتمتع الجميع بالحقوق والمسئوليات المتساوية باعتبارهم مواطنين في بلدانهم. وقد نبه الإمام الأكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين إلى حقيقتين مهمتين: الأولى: أن الأديان إنما جاءت لترسيخ السلام بين الناس ورفع الظلم عن المظلوم، وتأكيد حرمة دم الإنسان، ويكفي أن الدين الإسلامي اشتق اسمه من السلام فكان اسمه «الإسلام». والثانية: أن الإرهاب الذي تتهم بنشره الأديان عامة، والإسلام خاصة، هو إرهاب لا يفرق بين متدين وملحد أو بين مسلم وغير مسلم . موضحا أن نظرة سريعة لضحايا الإرهاب تؤكد أن المسلمين أنفسهم هم أكثر من يدفعون ثمن هذا الإرهاب من دمائهم وأشلائهم ، ليس فقط في الشرق حيث يضرب الإرهاب دول العراق وباكستان ولبنان ومصر وليبيا وحيث تمزقت سوريا التي هدموا فيها أكثر من ألف مسجد حتى الآن،وقتل فيها أكثر من أربعمائة ألف قتيل،بل في أوروبا سفكت دماء المسلمين جنبا الي جنب مع دماء الأوربيين في حوادث هذا الإرهاب ورغم ذلك فإن الخسارة الكبري التي أصيب بها المسلمون هي إلصاق هذا الإرهاب بدينهم وأفراد الإسلام بهذه التهمة من بين سائر الأديان وترديد هذا الاتهام حتي أثمر خطاب الكراهية الذي تبناه يمينيون متطرفون أهانوا الأديان ونادوا بعزلها وتهجير أهلها من أوطانهم وألحقوا الأذى بدور عبادتهم، فبات الأبرياء بين مطرقة الإرهاب وسندان الإسلاموفوبيا. ودعا الإمام الأكبر، إلى تدشين مشروع إنساني عالمي متكامل من أجل نشر السلام في كل ربوع العالم وتأكيد قيم المواطنة والتعايش المشترك ، مؤكدا أنه لم تعد تكفي تلك الإدانات والبيانات التي تصدر من أهل الأديان ضد عمليات العنف والإرهاب وخطابات الكراهية. وشدد على أنه يجب على مؤسسات الأديان وقادتها أن يعملوا يدا بيد من أجل السلام للبشرية جمعاء،موضحا أنه لابد من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم وبينهم وبين المفكرين وأصحاب القرارات المصيرية قبل العمل على نشره بين البسطاء من الناس ، داعيا إلى ترسيخ مبدأ المواطنة والذي من شأنه أن يسهم في الخلاص من مشكلات دينية واجتماعية لا حصر لها سواء في دول الشرق أو الغرب. وقد لاقت كلمات فضيلة شيخ الأزهر، كل القبول من قبل الحاضرين، وحظيت برد فعل واسع، واهتمام بالغ من كل المستويات الرسمية والإعلامية فى سويسرا، وهو ما تجلى فى إشادة أمين مجلس الكنائس العالمي أولاف فيكس تفايت، بفكر الإمام الأكبر، مؤكدا التزامه جديا ببناء السلام بين الشركاء المسيحيين والمسلمين، ومرحبا بتشجيع فضيلته لفتح حوار مشترك بين الأديان، ومعبرا عن سعادته بمشاركة شيخ الأزهر المباشرة في ورشات نُظِّمَت هذا الصيف في القاهرة شارك فيها الشباب المسلم والمسيحي، للتعايش معا والاستفادة من السياق والنموذج السائد في مصر. وأشاد فيكس تفايت بفكرة مؤسسة بيت العائلة المصرية، مؤكدًا أنها تمثل تجربة رائدة في تحقيق الحفاظ على التسامح والسلم المجتمعي، داعيا إلى ضرورة دراسة إمكانية تطبيقها على المستوى العالمي . وكان لافتا للانتباه تأكيد الدكتورة أجنس أبوم، رئيسة اللجنة المركزية بالمجلس العالمي للكنائس، أن الجانبين يواجهان تحديات مشتركة لتغيير المناخ المتعصب وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والعنصرية. طرفا الحوار بين الشرق والغرب الأزهر ومجلس الكنائس العالمي أكدا التزامهما برفض كل أشكال التعصب والتمييز العنصري بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الأصل وتشجيع القادة الدينيين على العمل مع الهيئات والسلطات المحلية ذات الصلة من أجل إبراز صورة الأديان بمفهومها السليم، وكذلك تشجيع المبادرات الناجحة مثل بيت العائلة الذي أسسه الأزهر الشريف في مصر بالتعاون مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنائس المصرية، ومحاولة تكرارها. كما اتفقا على ضرورة البحث عن السبل المناسبة لتشجيع المساهمات الجادة للمرأة في عملية بناء ونشر السلام، منبهين إلى ضرورة وقف سباق التسلح الذي يهدد أمن الشعوب كافة، والدعوة إلى توجيه هذه الموارد لمحاربة الفقر والجهل والمرض التي تواجه الشعوب الفقيرة والغنية على حد سواء، ومناشدة جميع القادة الدينيين للعمل على تحقيق العدل والسلام للبشرية جمعاء، واتفق الطرفان على عقد الجولة القادمة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب في الربع الأول من العام المقبل. وفى خضم المناقشات حرص المستشار محمد عبد السلام، المستشار القانونى والتشريعي لشيخ الأزهر، على توضيح حقيقة ما يروج له البعض على أنه أحداث طائفية بينما هو لا يعدو أن يكون مشكلات اجتماعية تلبس رداء الدين، بل ربما تحدث داخل البيت الواحد، ودعا الحضور إلى قراءة الوثائق التي أصدرها الأزهر الشريف، والتي اعتمدتها كل القوى والأطياف السياسية والفكرية والدينية في مصر آنذاك، تلك الوثائق التي أصلت المبادئ التي تقوم عليها أسس المواطنة الكاملة بشكل واضح وصريح. الحوار بين الشرق والغرب لم يقتصر على تلك المناقشات فقط، ولكن تضمن أيضا زيارة فريدة من نوعها قام بها شيخ الأزهر ، إلى المعهد المسكوني في مدينة بوسيه بسويسرا ، حظيت باهتمام من قبل العديد من القيادات السياسية والدينية ووسائل الإعلام العالمية، التى حرصت على متابعة الخطاب الذي ألقاه الإمام الأكبر هناك حول «دور رجال الدين في تحقيق السلام العالمي» ، والذي أوضح فيه دور القيادات الدينية في نشر السلام والتصدي لخطاب الكراهية والعنف والإرهاب. وكشف عن أن الأزهر الشريف يستعد بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين ، لعقد مؤتمر للسلام في أبوظبي في شهر نوفمبر المقبل ، وآخر في مصر في منتصف العام المقبل يحضره البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، مؤكدًا أن عقد هذين المؤتمرين هو من ثمار جولات الحوار بين حكماء الشرق والغرب . وخاطب الإمام الأكبر الحضور من القيادات الدينية فى المعهد المسكوني، قائلا: عليكم ألا تُسلموا عقولكم وتفكيركم للدعوات التي تربط ربطًا خاطئًا بين الإرهاب والإسلام ، فالدين والعنف نقيضان لا يجتمعان أبدًا ، موضحًا أن الجماعات الدينية المسلحة التي ترفع لافتة الدين هي خائنة لدينها قبل أن تكون خائنة لأنفسها وجرائمها لا يتحمل الدين وزرها. جدير بالذكر أن جولة الحوار بين حكماء الشرق والغرب فى سويسرا، سبقها مباشرة اجتماع مهم لمجلس حكماء المسلمين عقد فى العاصمة البحرينية المنامة، أكد خلاله الدكتور أحمد الطيب حرص الأزهر ومجلس حكماء المسلمين على التذكير الدائم والنداء المُتكرِّر لعلماء المسلمين -أولاً -وقبل الجميع أن يتَّقوا الله في شعوبهم وأن يكونوا على قدر المسئولية أمام الله تعالى وأمام ضمائرهم في القيام بواجبهم في إنهاء بث خطاب الفتنة والكراهية، وإعادة الثقة والأمل في نفوس الناس.. لأننا سنُسأل أمام الله تعالى عن هذه الأمة الجريحة وعن شعوبها المرهقة بالدِّماء والقنابل والهدم. انتهت جولة الحوار والاجتماعات، وبقى أن تتحول التوصيات إلى عمل ملموس من أجل سلام العالم أجمع.