لا أتفق مع الحكومة فى موضوع قرض الصندوق. وأرى أن لدينا بديلا أفضل، لكن الحكومة تتجاهله، وتهرول لتوقيع اتفاق مع الصندوق. وتتوالى التصريحات والتغطيات فى الإعلام الحكومى بأن قرض ال 12 مليار دولار لا بديل عنه لتمويل برنامج إصلاح اقتصادى وطنى 100%. وتصر الحكومة على أن الإصلاحات المستهدفة تمثل برنامجها الذى حصل على ثقة البرلمان، وأنها لن تقبل إملاءات من الصندوق. عظيم، فلننظر إلى التفاصيل، كما صرح بها وزير المالية- المسئول الأول عن تعاملات مصر مع الصندوق (يوم 4/8/2016): “لا مشروطية على مصر للحصول على قرض الصندوق. نستهدف 8 مليارات جنيه من طرح رؤوس أموال بعض الشركات العامة والبنوك بالبورصة. نتلقى عروضًا من بنوك ومؤسسات دولية للترويج لطرح سندات دولارية وسنختار أفضلها». ( لعلم وزير المالية: سبق أن طرح يوسف بطرس غالى سندات دولارية للشهرة و دفعنا دم قلبنا فيها) نبدأ بتشخيص مشكلة الاقتصاد المصرى. بمفعول عدة صدمات خارجية سلبية (انخفاض إيرادات السياحة وتحويلات العاملين بالخارج وتراجع الاستثمارات الأجنبية وتباطؤ النمو)، ونتيجة لسوء إدارة الحكومة للاقتصاد، أصبح اقتصادنا يعانى من نوعين من العجز(عجز داخلى وعجز خارجى) نتج عنهما مستويات خطيرة للدين العام (داخلى بنسبة حوالى 100% من الناتج وخارجى بنسبةحوالى 15%) والتضخم (بنسبة 14% سنويًا) واحتياطى النقد الأجنبى (17.5 مليار دولار) وزعزعة قيمة الجنيه. فى أرقام معدودات: عجز الموازنة تخطى 11%، عجز الميزان التجارى تجاوز 8%، معدل التضخم 14%. فوائد الدين العام أصبحت أهم بنود الموازنة بنسبة 7.6%، بالمقارنة ب 7.4% للأجور و 5.1% للدعم. وتتم تغطية العجز بالاقتراض وطبع البنكنوت (كمية النقود زادت بمعدل خطير بلغ 16% فى العام الأخير)). فهل ينجح برنامج الحكومة والذى يقال إنه أساس التفاوض مع الصندوق فى علاج هذه الأوجاع؟ بالتأكيد لا. فالبرنامج جوهره تقليص دعم الطاقة (برفع أسعار الكهرباء للمنازل بمتوسط 42% وإلغاء دعمها للمصانع تمامًا)، وتجميد الأجور مما يعنى خقض الدخول الحقيقية للعاملين، وفرض ضريبة القيمة المضافة، والخصخصة، وتخفيض الجنيه، ومزيد من الاقتراض الداخلى والخارجى. اقتصاديًا، قد يحقق هذا البرنامج بعض الإيجابيات، مثل جذب استثمارات أجنبية إلى البورصة لشراء أسهم شركات و بنوك القطاع العام التى ستطرح للإكتتاب كما صرح وزير المالية. و بالطبع سيعزز إحتيطى النقد الأجنبى لدى البنك المركزى. و كل هذا يمكن أن يزيد معدل نمو الإقتصاد المصرى وهو أمر ضرورى ومطلوب بإلحاح. لكنى أعتقد أن سلبياته كثيرة، وأنها فى المحصلة الأخيرة أكبر من الإيجابيات.فهو دواء لغير الداء، وسبق لمصر تعاطيه ولم يتعاف اقتصادها. وسيولد موجة غلاء شديدة تؤدى إلى إفقار متزايد للطبقات الدنيا والوسطى وتضر بالعدالة الإجتماعية. وسيُجرِّد المصريين من ممتلكاتهم العامة لصالح الخواجات. ولن يعيد للاقتصاد المصرى توازنه المفقود. و قد ينتهى بزعزعة الاستقرار الاجتماعى و السياسى. وبالتالى، فإنى أرى أن الإتفاق مع الصندوق طبقا لهذا البرنامج يمثل صفقة خاسرة، بالمعيار الشامل للتقييم ومن منظور المصلحة الوطنية. فهو دواء لغير الداء، وسبق لمصر أن جربت ذلك من قبل ولم يتعاف اقتصادها. و علينا أن نتذكر الدروس القاسية للإتفاق مع البنك والصندوق عام 1991 (أنظر كتابنا الصادر فى بريطانيا وأمريكا عن دار نشر إدوارد إلجر، والذى نشره بالعربية كاملا المركز القومى للترجمة بعنوان: التثبيت والتكيف فى مصر: إصلاح أم إهدار للتصنيع؟). قلت بالحرف: «و يبدو أنه بعد عشر سنوات فى ظل ما يسمى الإصلاح الإقتصادى، فإن الإصلاح يظل فريضة غائبة». فبعد إرتفاع مؤقت فى النمو الإقتصادى، هبط معدل النمو إبتداء من عام 1999/2000. واقترن تنفيذ البرنامج طبقا لوصفة البنك والصندوق بهبوط معدلات الادخار والاستثمار وتصاعد عجز المولزنة وتراكم الدين العام المحلى وإشتداد وطأة البطالة وتردى الإنتاجية وتزايد الضغوط على الجنيه والتى إنتهت بالتعويم و إنهيار قيمته فى 2003. وقد يتساءل القارئ: وما هو البديل؟ بإختصار، البديل هو محاربة جادة للفساد، وإعلان اقتصاد حرب، وتطبيق برنامج جاد للتقشف لتقليل الطلب الكلى، والتركيز على دفع عجلة الإنتاج الزراعى والصناعى بدلا من العقارى لزيادة العرض الكلى. يعنى البديل الذى نطرحه فى عشر نقاط محددة: (1) محاربة الفساد فعلا لا قولا (فساد القمح و الخبز مجرد مثال وهو بالمليارات)؛ (2) ضغط الإنفاق الحكومى بالتخلص من غير الضرورى مثل سفر المسئولين إلى الخارج والاحتفالات فى الداخل، ومراجعة قائمة المشروعات الكبرى بتأجيل بعضها وإلغاء البعض الآخر (مشروع العاصمة الجديدة)، وإعادة النظر فى نظام دعم القمح والخبز والسلع التموينية وردع المتلاعبين بأقوات الغلابة؛ (3) تنفيذ مشروع قومى لتأهيل شبكة الصرف المغطى للأراضى الزراعية؛ (4) تشغيل المصانع المعطلة والتى قيل إنها بالآلاف؛ (5) الأخذ بنظام الضرائب التصاعدية وإعادة العمل بالضريبة على أرباح البورصة بدلا من ضريبة القيمة المضافة؛ (6) وضع سقف معلن للدين العام حماية الأجيال القادمة؛ (7) تعزيز الإستقرار النقدى بوضع حد أقصى لزيادة كمية النقود لحماية القوة الشرائية للجنيه ؛ (8) وضع ضوابط على حركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج، وضبط الواردات بتقليل غير الضرورى منها إعمالا لحقوق مصر كعضو فى منظمة التجارة العالمية طبقا للمادة 18-ب من إتفاق الجات و ليس بتخفيض الجنيه (بالمناسبة مصر طبقت ذلك بالفعل عام 1960)؛ (9) تغيير نظام سعر الصرف بريط الجنيه بسلة عملات بدلا من الربط بالدولار؛ (10) إصدار تشريعات لتحقيق الكفاءة والعدالة، وبالذات تعديل قانون إيجارات العقارات القديمة وقانون العلاقة الإيجارية للأراضى الزراعية. فالعدل أساس المُلك. إننى أحذر من العواقب الوخيمة لنتائج برنامج «الإصلاح» طبقا للإتفاق مع الصندوق، وبالذات فيما يتعلق بكيفية مواجهة مشكلة العجز الخارجى. فالحل طبقا للبرنامج يكون بالمزيد من الإقتراض واتباع مرونة أكثر فى سعر صرف الجنيه. يعنى مزيدا من تخفيض قيمة الجنيه. هذه هى وصفة الصندوق، لكنها ستزيد الحال سوءا، كما أثبتت تجربتنا من قبل. فالتخفيض سيؤدى إلى مزيد من الغلاء، وإلى معاناة معظم صناعات التجميع وتقليل تنافسيتها، وسيستلزم زيادة مخصصات الدعم لتأمين الحماية الإجتماعية ضد الغلاء، وزيادة مخصصات خدمة الدين الخارجى فى الموازنة العامة للدولة. إن تخفيض الجنيه قد يقلل بعض الواردات ويزيد بعض الصادرات و يجذب بعض الاستثمارات، لكن مقابل ثمن باهظ يشمل زيادة عجز الموازنة و توليد التضخم و زيادة الدين الخارجى. والبديل الذى نطرحه أساسه اعتمادنا على الذات و محاربة الفساد وضغط الإنفاق الحكومى ووضع ضوابط لحركة رؤوس الأموال الأجنبية وضبط الواردات بغير طريق تعويم الجنيه. مثلا، لو خفضنا وارداتنا بنسبة 20% بالتفاهم مع شركائنا التجاريين، نوفر حوالى 14 مليار دولار، يعنى أكثر من مبلغ قرض الصندوق. وبإلغاء العاصمة الجديدة وتأجيل بعض المشروعات الأخرى، نوفر عشرات المليارات من الجنيهات. وبالقضاء على فساد منظومة التموين والقمح والخبز، نوفر عشرة مليارات جنيه على الأقل. فهل تناقشنا الحكومة فى كل ذلك، أم أن زَمَّار الحى لا يُطْرِب؟ لمزيد من مقالات د. جودة عبدالخالق