تتأسس قواعد شرعية النظام, وبالتالي الرئيس, عقب الثورات, والتحولات التاريخية الكبري, ليس بناء علي هذا الحدث الهائل في ذاته, بل علي انجاز, يستجيب لأماني الملايين الذين حلق هذا الحدث بآمالهم إلي أعلي المستويات. وتكون الفترة بين صعود الامل إلي ذروته, وبين لحظة الانجاز, هي فترة استيعاب وتقييم, تتأسس, وتترسخ بعدها أركان الشرعية. ولما كان الرئيس القادم قد جاء نتيجة ثورة, والكل يعترف بالتزامه بها وبمطالبها, فإن أولي قواعد اكتسابه الشرعية, تكون بتحقيقه أول وأهم أهداف هذه الثورة التي تجسدت في الثمانية عشر يوما الأولي, في المطالبة بإسقاط النظام القديم.. بمعني أسقاط منظومة تفكيره, وسلوكياته, التي جمدت أوصال الدولة والمجتمع, وتدنت بكل طاقاتها وأحلامها. ولو اننا استشهدنا بنموذج قريب من تاريخنا المعاصر, عن هذه الشرعية اللاحقة لشغل المنصب, نجد أن عبد الناصر كان قد ظل, رغم دوره في ثورة يوليو, مثار جدل واختلاف, إلي أن جاء أداؤه في مواجهة العدوان الثلاثي علي مصر عام 56, ليحوله من مسئول صاحب سلطة, إلي قائد, صارت الجماهير, تتوقع علي يديه المزيد والمزيد من الانجازات. بصرف النظر عما حدث بعد ذلك من تيبس النظام السياسي, بسبب استحواذ تنظيم سياسي واحد, علي كل مفاصل الحياة السياسية وتلك قضية أخري. والانجاز المرتقب مرتبط بقضية عاجلة, وأخري أشمل وأبعد مدي, وكلتاهما متصلة بالأخري, ولا انفصال بينهما. الأولي: أن الرئيس يتسلم مسئولية إدارة دولة, قامت فيها ثورة, في 25 يناير 2011], أحدثت ارتباكا في استراتيجيات دول العالم, خاصة أمريكا وإسرائيل, والارتباك هو الوصف الصريح من هذه الدول ذاتها. وكانت مفاجأة الثورة قد وضعت هذه الدول في موقف مراجعة لفكرها الاستراتيجي, انتظارا لما سوف يحدث لهذه الثورة وأهدافها المعلنة. وبعد أن قدرت هذه الدول أن استكمال أهداف الثورة, بإسقاط النظام السابق, وتفكيك منظومة تفكيره, هو الذي سيرفع من قيمة مصر ومكانتها داخليا, وإقليميا, ودوليا. وإذا لم يحدث هذا التغيير, فإن هذه الدول لن تتضرر, وبالتالي تستطيع أن تستمر علي نفس نهجها السياسي القديم والمستمر, فضلا عن تجميد عملية التغيير, وتحقيق النهضة لشعب مصر في الداخل. الرئيس إذن إما أن يكمل مسيرة الثورة, والتي عرقلت حركتها للتغيير من بعد 11 فبراير 2011, بفعل عاملين, هما ثورة مضادة منظمة بخطة وآليات, أطلقت الأنفلات الأمني, والتعثر الاقتصادي والانتاجي, وعوقت فرص التحسن المعيشي. وكذلك محاولات اختطاف الثورة من فرق أرادت الاستحواذ عليها منفردة. ومن ثم يكون التمكين للثورة, وأهدافها, المسئولية الأولي للرئيس, والتي ستخطو به نحو اكتمال الشرعية. القضية الثانية هي الانجاز الاقتصادي, مقترنا بهدف جوهري هو العدالة الاجتماعية. وإذا كانت التقديرات تتفق علي أن نسبة الفقراء في مصر, تتراوح بين 40% و50%, بالاضافة إلي تفشي العشوائيات بسكانها الاثني عشر مليونا, فإن مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية, يصبح هو الأساس المنطقي, لتوزيع عائد معدل التنمية, خاصة وأن الاقتصاد يعد الأساس الأول لإعادة بناء الدولة, التي شهدت خلال الثلاثين سنة السابقة, هدم فكرة الانتاج, لحساب إرساء فلسفة الاستيراد لجني وتكدس العمولات. والاقتصاد التنافسي بمقاييس العصر, هو مفتاح النهضة والازدهار والرخاء المعيشي, في الداخل, وهو مفتاح مكانة الدولة ونفوذها في الخارج. تلك مفاهيم استقر عليها علم السياسة, في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين. وحين يتحقق الانجاز في هاتين القضيتين, عندئذ يفوز الرئيس بما يدعم شرعيته, مع عدم اغفال حقيقة أن صندوق الانتخاب, هو تذكرة الدخول إلي معترك لاثبات الجدارة بثقة الناخبين. من المهم للغاية أن يراعي الرئيس القادم أن التغيير قد طال كل شيء. وحتي لا نشتت أنفسنا, يكفي أن نلاحظ أن العالم دخل مرحلة التغيير, منذ سقوط الأنظمة الشمولية عام 1991, وظهرت فيه قوي جديدة تشكل تحديا للمجتمعات الإنسانية, مثل أطراف منظمة ليست دولا, وتصاعد الارهاب, والجريمة المنظمة, وتغير المناخ, ومشاكل البيئة, وندرة الموارد. والدول التي فهمت ذلك, هي التي جهزت نفسها للتعامل مع الظروف المتغيرة, وتمكنت من أن تصبح دولا صاعدة وناهضة. بل إن دولا متقدمة في الاتحاد الأوروبي سارعت بتطوير آليات التعامل مع زمن تغير, واتجهت جميعها سواء المتقدمة أو الصاعدة ليس فقط لضمان أن تكون القوي الداخلية علي اختلاف توجهاتها شركاء, بل أيضا البحث عن أشكال لهذه الشراكة في الخارج, وبصورة تقوم علي المصالح المتبادلة, في اطار ما يعرف بالاستراتيجية الكبري, أو العالمية] والتي عرفها المؤرخان بجامعة بيل في نيويورك, جون جاديس وبول كيندي, بأنها العلاقة المحسوبة بدقة بين الامكانات المتاحة, وبين الأهداف الكبري التي تنشدها الدولة. وأن هذه الاستراتيجية صارت شيئا لا غني عنه. فالدولة في ظروف العصر المتغير لم يعد يكفيها التحرك في حدود أطرها التقليدية جغرافيا, أو في نطاق تحالفاتها السياسية القائمة, بل أصبحت تحتاج إلي اقامة أشكال للتعاون, حتي ولو انطلقت الي الامتداد البعيد جغرافيا, وأن تتم هذه الشراكة في اطار رؤية استراتيجية متعددة المنافع, وللمدي الطويل. الكثير من دول العالم تتصرف الآن وفق هذه الاستراتيجيات مثل الصين, والهند والبرازيل وتركيا, وإندونيسيا, وجنوب افريقيا. إن تأسيس الشرعية, ليس مدخلة صندوق الانتخابات وكفي, فتلك هي الخطوة الأولي في هذا الاتجاه, وبعده يكون الانجاز الذي يحقق لمصر, ما كان ينبغي أن ينهض بها داخليا, ويكسبها مكانة اقليمية ودولية, كقوة مؤثرة لها دور ومكانة تليق بها, وبناء علي الوعي بأننا نعيش عالما, ليس هو العالم الذي كان إلي وقت قريب. ويبقي السؤال: إلي أي مدي تكون لدي الرئيس القادم النية والإرادة, لوضع أهداف الثورة التي تحددت في ال18 يوما الأولي لها, موضع التطبيق؟ المزيد من مقالات عاطف الغمري