يتردد على البيت فى غياب الزوج الذى لا تراه.. يستند فى تردده إلى قرابته للزوج، وإلى عمره الممتد، ومع تكرار تواجده إلا أنها كانت تحب أن تظهر بمظهر جديد. ما الذى يمنع أن ترتدي فستانها (البمبي) وأن تمشط شعرها وترسله خصلات تنساب حتى الكتف، وتتزين بقطع ذهبية نسيتها طويلا فى علبة الجواهر. ترددت أمام أحمر الشفاه فتركت شفتيها تلمعان بحمرتهما الطبيعية.. أطلت فى المرآة واطمأنت لهندامها. .. ابتسمت حين رأته. ما الذى جرى له؟ وما هذا التأنق الذى هو فيه؟ (البدلة) داكنة ومحبوكة، الشعر الأبيض مرَجّل ويميل على جانب الرأس الأيمن، والوجه ضاحك وباش. مدّ يده فقبضت عليه وأجْلسته على الأريكة.. فى بهو البيت. ظل يراوح النظر إليها ثم قال وهو يتداخل فى جلسته. أنت جميلة حقا. رنا إليها، وأمعن، وكأنما يريد أن يصل إليها المراد حماك الله من عين الحسود.. وصانك من خبث العابثين اتسعت عيناها، أحمر الوجه وتوهج كيف يتجاهل هذا الولد هذا الجمال؟ أي ولد تقصد؟ زوجك!! أليس ولدا؟ تسللت إليها سعادة غائبة، وشعرت ببهجة تكاد تنضح على وجهها. همس وهو يصوب نظره فى الفراغ كأنه يؤنبه ولد غبىّ وصلتها الكلمة، أدارت رأسها وكتمت ضحكتها. .. انعكست مشاعرها فى عين الرجل، وشعر بقلبه يتقلص، وبحنان يحتويه، وبحزن صريح تجاه الجمال الحزين.. المهمل. اقترب منها، ومسك يدها. تذكري أنكِ الأفضل. نظرت إليه صامته.. ومندهشة. وأنكِ الأجمل. أطبقت جفنيها فى زمّة واضحة والقادرة على المواجهة. خفق جفناها فاهتزت الرموش.. خطف نظرة إليها فلاحت رموشها مبلولة بدموع محتجزة. علينا أن نتعلم كيف نحيا؟ همست فى صوت خافت لا يبين. سوف أحيا! دارت عيناه فى البهو الأنيق، وتوقفتا على صورة لهما بثوب الزفاف، وباقة تزهو فى يدها، وعينين تحملان نظرة تائهة. اقتربي منه ولا تعاندي فتخسريه، ويضيع منك تنهّد، علا صدره، وخرج هواؤه ساخنا الوحدة قاسية. سأحاول. .. عنّ للرجل أن يسألها، أن يلمس الجانب الخفى فيها. لمَ تبدو أحيانا ذاهلة ومتوترة، ومتجملة، بم يفسر هذا النفور لبيتها كأن به ثعبانا تخاف أن يلدغها!. ما الذى يدفعها إلى الخروج دائما؟.. ألديها نزوات صغيرة تخفف بها عالمها الذى يبدو لها موحشا؟.. مع أنها ترفل فى ترف واضح!.. أم أنها.. أم.. كفّ عن الاسترسال وعضّ شفتيه وطوح برأسه رافضاً.. وتمتم.. لا أظن.. لا أظن.. لكن السؤال ظل يراوده ويزاحم فكره الذى التبس.. أفى حياتها رجل آخر؟. رمى عينيه نحوها وهى تضع كوب الينسون أمامه.. والهاجس يشغله. .. كانت تشعر معه بالألفة والمودة، لم تشفع قرابته للزوج فى هذه المودة، بل فاض وقاره على السلوك معها، والاهتمام بها.. وسؤاله الأبوي الدائم كلما غاب الزوج، أو سافر فى مهمة عمل.. وعبر هذا اللطف الجميل كان دلالها الأنثوى يكسبه ثقة فى النفس.. وأن عمره السبعيني قادر على التجدد، وتقبُّل الحياة. .. ظل يصطاد بعينه حالاتها، ويخشي عليها، ويشعر بقلبه أنها تحيا مثلهُ الوحدة التى تطاردها بخروجها الدائم، لم يجدها كثيراً فى البيت كلما مرّ عليها. لكن.. كيف تشعر بالوحدة وهى المتزوجة؟! وهل سيظل زوجها يعاند حتى يهلكا معاً؟ .. لم ينس وهو يمر بمسكنها أن يطمئن عليها.. قبل أن يصل إلى مأواه بالطابق الثالث.. لم يملّْ.. يدق الباب، وينتظر، تفتح الباب، فيلقي التحية ويبتسم.. وحين تبتسم يومئ برأسه ويواصل الصعود. .. هذا المساء والذى قبله لم يضغط على الجرس، ولم يومئ برأسه.. اتخذت طريقها إليه. وهما يشربان الشاى اختلست النظر إلى إطار جميل وأنيق، بداخله صورة لامرأة فى منتصف العمر، وبجوارها زهرة بيضاء بفرع دقيق وورقتين خضراوين. نحىّ فنجان الشاي جانباً، وراح ينظر إليها، نظرة تشي بفرحة بادية.. على وجهه.. ابتدرها قائلا: زوجتى.. أنت تعرفينها. نعم.. كانت جميلة، ومحبة للجميع. لم أر امرأة مثلها. انفرجت شفتاها عن بسمة رضيّة.. وقالت: يفضحك الحب. لاذ بالصمت.. تأمّلت وجهه الذى تغضن، ولمحت رعشة أرجفت ملامحه.. أخذته نظرة فغاب عنها.. أخرجته من حالته بنقرات على رُخام الطاولة. أسقطتني فى الفراغ ومضت. ارتعش داخلها، وخشيت أن يفيض فيزداد الشجن وألم الفراق هى أمامك.. ليل نهار! الفل يعطرك.. والعين تحميك. كأنني أراها الآن راجعة من مشوارها اليومي وفى يدها فرع الفل، تضعه فى إناء زجاجي .. لم تنس يوما عادتها. ارتجف صوته، وشملته هزة رجته.. وتنهد فى عمق حين مرضت اختفت الرائحة أسرعت قائلة وهى تخشي أن يسترسل أنت تكرمها فى موتها .. رنت إليه وأشارت بإصبعها منبهة.. ثم ضحكت. ألا ترغب فى امرأة تؤانسك وتخفف وحدتك! قالت لي فى مرضها.. لا تتزوج علىّ لكنها ماتت. رفع رأسه، ورمقها وأمعن.. كانت قريبة منى.. لصيقة بي. تجنب نظرتها الرانية وقال: القرب بين الزوجين يبعد الجفاء. جرّبي. وحدق فى الصورة، وأشار بيده إلى ملامح الوجه، وزهرة الفل، والفرع الدقيق، والورقتين الخضراوين.. ثم قال فى زهو: ها هى أمامك.. تملأني.. ونهض ضاحكاً: آن لنا أن نشرب القهوة. .. نظر إليها حانيا وهو يرشف قهوته.. جنحت عيناها نحو صورته على الواجهة أمامها وابتسمت. نطق فجأة كأنه اكتشف أمراً معك لا يشعر الإنسان بالملل. كيف يمل منك؟ تنهدتْ فى عمق حتى كاد هواؤها الساخن يصله. أتعجَّب لم لا يقترب منك. وتنهد هو الآخر عميقاً وسألها معاتباً. لم تبعدى عنه.. اقتربي، البعد هجْر. استراح فى جلسته، فرد ساقه، وفرك أصابعه، انحني قليلا وتناول الفنجان، أبقاه فى يده وحدّق فيه، كانت ترمقه وتنتظر أن يخلع عينيه منه. رفع رأسه ثم رشف رشفة طويلة. وضع الفنجان بين إصبعيه وراح يرجه.. وقال مبتسماً. أتقرئين الفنجان؟ أتعرف أنت؟ قليلاً أطرقت برهة ثم تساءلت: أحتاج إلى منْ يفسر لي حلمي الذى يقلقني. دعك من الفنجان .. رأيت أبي فى المنام يدلف من الباب متسللا ويجلس فى مواجهتي.. لمحت فى نظرته مقْتا لم أتعوده منه، كأنني ليست ابنته، قال فى غضب: تستحقين الموت.. مثلك لا يشرفني.. أخرج من جيبه سكينا تلمع وهبّ شاهراً سكينه،.. ارتعت ورحت أصرخ. استمعتْ الريح لصراخي وحنتْ علىّ، فهبتْ، فتحت النافذة، وتلقفته، انتزعته انتزاعاً وأغلقتْ الشباك.. لكنني ارتعبتُ كثيراً حين نظرتْ إلىّ وغمزت بعينها.. قبل أن تمضي. تمعنّ فيها مليا رؤية الأب نذير أيصيبني ضرر؟ إنه يحذرك ممّ.. يحذرني من نفسك وتمتم فى صوت خافت النفس أمارة بالسوء مسح على رأسه، وعلى وجهه وبدا غافيا الوحدة وراء كل الهواجس اعتدلتْ وسوت سترتها، وبدا عليها التوتر وصوته يجنح إلى رعشة تصاحبها نظرة رانية. اللهم أهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدى لأحسنها إلا أنت. .. لمح وجوما يطل من ملامحها فأسرع مداعباً فكري فى عمل ما.. سيخفف عنك. أكاد أجن فرد أصابعه فى وجهها كأنما يبعد عنها أذى يقترب، ونهض.. قدم لها علبة مفضضة.. كعادته كلما زارته.. رشحت عينها بامتنان.. هو القريب، والرقيب، والناصح الأمين.. مدت يدها وتناولت قطعة وفضّتْ غلافها. علت وجهها بسمة رضيّة وصاحت فى غُنّّة. كل مرة.. هذا كثير مست بشفتيها قطعة الشيكولاته، وهى ترامقه فى بهجة، لاكتها فى تلذذ. أسرع، أخذ الفنجانيْن ومضى إلى المطبخ. رنا إلى صورة زوجته على الجدار وقال فى صوت عال. لا تتململي.. هى كإبنتي.. زوجة قريب لي. فلا تغاري.. اطمئني. ضجت بالضحك، ونهضت، طلب منها أن تجلس، فثمة مفاجأة. الوقت تأخر.. أمهلها دقائق ثم عاد وبيده صينية عليها طبقان. تساءلت فى دهشة رائقة. مهلبية.. أيضاً. عاتبته ممتنة تعرف أني أحبها.. كان الأولي بي أن أصنعها وأقدمها لك. كانت حبات الزبيب تتيه بلونها، ومسحوق المكسرات يتخايل فى نسق يثير الشهية.. ليس من المناسب أن أتأخر المهلبية عشاؤك. ضحكا.. وواصلا الحديث تملاَّها وهى تمسك بالملعقة. حملت عيناه وداعة، وشفقة. لم لا تقدمين له طبق مهلبية من صنع يديك. تنبهت، فأعطته سمعها. سيري الزبيب، والمكسرات وزينتك التى تثير اللعاب، وصنعتك التى لا ينساها. أسندت رأسها على كفها وتابعته بعد المعلقة الأولي.. سيرمقك معجبا، سيطبع قبلة على وجهك ممتناً كم قدمتُ له.. يهز رأسه.. ثم يمضي. أدار رأسه، وتجنب النظر إليها.. كثيراً، ما تحدثت معه.. عتاباً ومناصحة.. سأعاود.. بودي أن تنجحا فى حياتكما. اعتدلت، سوت سترتها، وزمت طوقها.. قالت وهى تمد يدها إليه مودعة. دعه.. سيعلمه الزمن.. إذن.. اصبري .. وهو يودعها.. وضع على شفتيه بسمة رائقة كان يقصدها. .. قلبه يأسى على هذه المرأة التى غلبتها الحيرة، وجانبها الصواب أحيانا.. هى النفس لا نقوى على مغالبتها إلا قليلا. هذه البنت الجميلة، الوحيدة والزوجة المهجورة عليها أن تتحلي بمناوشات الأنثي مع الزوج.. كما تحدث مع الغير فى أحيان أخرى. .. ما الذى يمنعها من اقتحامه.. وفرض نفسها عليه، رضى أم أبي؟.. هذا الزوج المعاند، الغبي.. الذى مللت من نُصحه.. يحتوى الوجه، ملامحه، وأشجانه، فيرتعش قلبه عطفا عليها وحرصا. يخشي عليها من مصير يعاني منه.. حياة تقوم على ذكريات.. صورة معلقة على الحائط. .. ظل رانيا إليها والبسمة عالقة بشفتيه، تغالب دمعةً تريد أن تخالسه وتفر.. أدركت حالته، فحركت رأسها وسألت كانت الجلسة طيبة.. فماذا بك؟ مسك يدها، وربت عليها فى حنوُ دافئ وقال فى صوت يحمل عطفا وحثَّا على الفعل. تقدمي إليه. وضحك زاعقاً وهو يتعمد الكلام. قولي له فى دلال الأنثى.. هئتُ لك. لمح حمرة الخجل تطل على الوجه.. فتابع حديثه اقتحميه يا بنيتي.. لا يقف كل منكما فى طرف مغاير.. اقطعى المسافة، واقتحمي، لا تبالي بردود الفعل.. مرة، وثانية، وثالثة.. صدقيني، سيدرك.. وسيتغير.. تنهدّ، وخرج صوته يحمل ودًّا وعطفا.. قدمي له الزهور والورود.. جرَّبي.. .. لاذتْ بالصمت يعلم أنهما تحدثا سويا حول هذا الأمر.. لكن ما الذى يمنع.. سأكرر ما فعلته. سأزرع البيت زهوراً ونباتات عطرية.. لعل أنفه يشم.. وقلبه يعود لنبضه. .. تهلل وجهه كأنما وصله ما كانت تفكر فيه. فقال فى تؤدة حانية. وردة بيضاء تكفي.