جاءت مبادرة الأوقاف بتشكيل لجان علمية لتنقية التراث الإسلامى لتمثل خطوة مهمة فى مسيرة تجديد الخطاب الديني، وتضع المؤسسات الدينية جميع أمام مسئولياتها لتتحرك فى طريق التجديد وتصحيح المفاهيم وإزالة الغموض والالتباس ومراجعة وتنقيح التراث الفقهى من المفاهيم الخاطئة والاجتهادات الفقهية القديمة وإسقاطات المفسرين لثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم على النص القرآنى والحديثي، حتى باتت قراءاتهم للنصوص مجرد أفكار مسبقة ممزوجة بموروثات وعادات وتقاليد وأعراف فكرية واجتماعية كانت سببا فى فهم خاطئ لآيات القران وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، ونتج عنها أفكار لا تتفق مع سماحة الإسلام ومبادئه وتشريعاته. هذا التحرك الفكري، وإن بدا متأخرا، إلا أنه يبقى حاجة ملحة لإنقاذ المرأة من أوزار الفقه الذكوري، والتصدى لفتاوى التنظيمات والجماعات الإرهابية وخطاب الجريمة الذى تم إلصاقه زورا وبهتانا بالإسلام استنادا إلى بعض الأحاديث المدسوسة والضعيفة التى حملت عللا وأمراضا انتقلت إلى عقول أبناء الأمة فأفسدتها، وبعضها جاء مناقضا لسنن ثابتة عن الرسول، وبعضها مناقض للعقل ولكليات القرآن ومقاصد الإسلام. مبادرة النمر تنقية التراث ليست دعوة جديدة، ولم تأت من المستشرقين، وإنما هى دعوة قديمة استكشفها علماء وفقهاء أجلاء، ومن أعلام الأزهر السابقين الذين نادوا بتنقية التراث فضيلة الشيخ عبدالمنعم النمر، الذى دعا سنة 1969 إلى تنقية تفسير الطبرى، مما به من حشد هائل من الروايات غير الصحيحة، ودعا إلى تجريد هذا التفسير القديم من كل رواية غير صحيحة، سواء أكانت إسرائيلية أو موضوعة، وإخراج الكتاب بعد ذلك للناس بريئاً من هذه العيوب. ونحن بدورنا نطرح كل ما يتعلق بقضية تنقية التراث، ومن المسئول عن هذه المهمة الجليلة؟ وكيف يتم ذلك؟ وهل يكون بجهود فردية، أم من خلال لجان وعلماء متخصصين من المؤسسات؟ وكيف تخرج هذه المواد العلمية للنور بعد هذا الجهد العلمى الدقيق؟ وهل ترى نتائج تلك الأعمال النور ام يكون مصيرها كسابقتها التى راكمها الغبار فى بدروم كلية أصول الدين بالقاهرة والذى يضم رسائل ماجستير ودكتوراه بلغت نحو ألف عمل، و500 عنوان تراثى حقق، كلها ملقاة فى البدروم، ولم يطبع منها أى عمل على وجه الإطلاق؟ فى البداية يقول الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، أن تلك المبادرة تأتى فى إطار الخطة الدعوية الشاملة للأوقاف لتصحيح المفاهيم وتجديد الخطاب الديني، وسيتم تشكيل ثلاث لجان لتنقية التراث، تشمل لجنة التفسير وعلوم القرآن، ويأتى فى مقدمة أولوياتها العمل على إخراج تفسير للقرآن الكريم، يكون خاليا من الإسرائيليات والروايات الموضوعة والضعيفة، وكذلك لجنة السٌنة والسيرة، وتهدف إلى قراءة موضوعية عصرية لصحيح نصوص السٌنة، وتنقيتها مما علق بها من روايات لا أصل لها، وأيضا لجنة المستجدات والدراسات الفقهية، وتعنى بالقضايا والمستجدات العصرية، ودراستها دراسة وافية، فى ضوء الثابت والمتغير ومراعاة ظروف عصرنا وطبيعته، وسيكون لكل لجنة أمانة تنفيذية تجتمع بصفة دورية حسب طبيعة كل لجنة، مع تشكيل أمانة عليا للجان لمتابعة التنفيذ. سبل تنقية التراث وحول الآليات والضوابط الواجب مراعاتها ومقترحات علماء الدين لأعضاء اللجنة يقول الدكتور بكر عوض زكى عميد كلية أصول الدين الأسبق بجامعة الأزهر، إن لتنقية التراث اتجاهات ثلاثة، الأول فردي، والثانى المؤسسات العلمية، والثالث دور النشر، وبالنسبة للاتجاه الأول وهو الفردى فقد قامت به ثلة من المحققين، قدموا أعمالا علمية تبلغ حدا فى الكثرة فى ميادين شتي، يقدمهم أعلام مصريون، ثم شوام ثم باكستانيون، ثم علماء الهند، وعلماء خليجيون، ومن يتعامل مع الكتب والمكتبات يتبادر إلى ذهنه مباشرة الأسماء والأعمال، وأكثر هؤلاء ماتوا فقراء، لأن تحقيق التراث يتكلف الكثير فى جمعه والإنفاق عليه وإخراجه، وقد لا يكون العائد مساويا للتكلفة. أما الاتجاه الثانى وهو المؤسسات العلمية المتمثلة فى الأزهر الشريف والأوقاف، ووزارات الشئون الدينية فى الدول الإسلامية والجامعات، فهذه المؤسسات قد سلكت سبلا عدة فى تحقيق التراث منها، تسجيل رسائل ماجستير ودكتوراه لكتب التراث، وبخاصة كلية أصول الدين بالقاهرة وفيها أكثر من ألف عمل، و500 عنوان تراثى حقق، كلها ملقاة فى البدروم، ولم يطبع منها أى عمل على وجه الإطلاق، وكذلك سائر كليات جامعة الأزهر، هذا بالإضافة للأعمال العلمية، التى يتقدم بها الراغبون فى الترقية، لدرجة أستاذ مساعد أو درجة أستاذ، وقلما يعاد الطبع بعد اجتياز الترقية بها، وذلك باستثناء الراغبين فى نشر المعرفة، وإن كلفهم ذلك الكثير. حلول مقترحة ويقترح الدكتور بكر عوض بعض الحلول لهذه المشكلة، تتمثل فى نشر الأعمال التى حققت فى المؤسسات العلمية، بعد تشكيل لجان لمراجعة وكتابة وتقديم ما يستحق أن ينشر منها، وتنشيط حركة التحقيق، لأن بعض المؤسسات رفضت فى الفترة الأخيرة، الحصول على درجة الماجستير والدكتوراه من خلال التحقيق، وأحيانا يرفض العمل العلمى عند التقدم به للترقية، كما يجب الاهتمام بمعهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وإحياء أقسام تحقيق التراث، أينما وجدت هذه الأقسام، وتفعيل دورها على أرض الواقع. الحذف مرفوض من جانبه يشترط الدكتور علوى أمين، أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، فيمن يقوم بتنقية التراث أن يكون علما متخصصا، وعلى درجة أستاذ فى هذا التخصص، لأن هذا العمل أمانة ومسئولية، فتنقية التراث لا تعنى الحذف والإلغاء، لكن التوضيح والشرح، وبيان أن هذا الأمر صدر فى مواقف وزمن معين، وبالنسبة للحديث يكون التدخل فى شرح الحديث، وكذلك يكون التدخل فى كل الأحكام الفقهية، ولا نلغى هذه الأحكام، لكن نوضح المقصود منها، ونجدد الفقه والشرح، وذلك بهدف أن تكون هناك قراءة عصرية، ويكون التدخل فى الأمور التى تخالف العقل والشرع والتاريخ والقرآن والسنة، لأن هناك أمورا فى كتب التراث صدرت فى وقت الحروب، وهذه الكتب أنتجت تراثا معاديا لكل ما هو غير إسلامي، والمطلوب اليوم أن نقوم بالتعليق على هذه الأمور ونبين للناس المقصود منها. التنقية تمت منذ سنوات ويشير الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إلى أن تنقية التراث موجود بشكل واضح فى جامعة الأزهر، وعندما كنت أتولى رئاسة الجامعة، قمنا بمشروع ضخم لتنقية التراث على أعلى مستوي، وهو تحقيق ليس له مثيل على ظهر الأرض، وقمنا بتوزيع كتب التراث على طلاب الدراسات العليا، والذى يريد أن يحصل على الماجستير أو الدكتوراه، كنا نوزع عليه أجزاء هذه الكتب، وتم ذلك فى وجود مشرفين فى غاية التخصص الدقيق، وقاموا بتحقيق وتنقية كتب التراث على نحو منقطع النظير فى مجالات التفسير والحديث والسيرة وكتب التراث، وأقول لمن ينادى بتنقية التراث حاليا تعالوا إلى كلياتنا فى جامعة الأزهر، وخصوصا كلية أصول الدين بالقاهرة وسترون كتب التراث البليغة الرائعة التى تم تحقيقها، وموجودة على أرفف المكتبات تنتظر من يخرجها إلى النور، وتنتظر أصحاب الأموال ودور النشر الحكومية والخاصة لتنفض عنها الغبار. مسئولية الأزهر ويرى الدكتور رأفت عثمان، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بالقاهرة وعضو هيئة كبار العلماء، أن الأزهر يقوم بهذه المهمة فعلا، فلا يصح ولا يجوز لأى جهة مهما كان مركزها ونشاطها العام، سواء كانت الأوقاف أو غيرها أن تدعى لنفسها الجدارة بأن تقوم بهذا العمل العلمى الخطير، لأن هذا يكون محاولة انتزاع حق علمى لا يؤتمن عليه إلا هذه المؤسسة العلمية الشامخة، ومهما بلغت الإمكانات والكفاءات العلمية لوزارة الأوقاف، مع تقديرنا الكامل لعلمائها المتميزين وغير المتميزين، أو بلغت الكفاءات لغيرها فى أى جهة من جهات مصر، أو سائر بلاد العالم، فلن تقترب ولو قليلا من قامة هذه القلعة العلمية بعلمائها المتخصصين، التخصص العلمى الدقيق كل فى مجاله، فى علوم الشريعة الغراء والعربية والعلوم العقلية والثقافية، فى أكثر من 70 كلية جامعية، ومن المؤكد أنه لكى يكون الأداء علميا، لابد أن يسند الأمر إلى أهله، وأهله هنا هو الأزهر لا غيره، فهو المنوط به القيام العلمى بتنقية التراث، ويقوم فعلا بهذه المهمة الخطيرة، وهو المسئول عنها كما نص على ذلك القانون.