تشابكت خيوط المأساة لتجمع بين قتامة الماضي ورمادية الحاضر. لقي الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي مصرعه في بقاع طالما اغرق في عدائه لها ولاهلها. لم يكن يحب موسكو ولا يكف عن اتهامها بالوقوف وراء الكثير من المصائب والكوارث التي حلت بشعبه وشعوب بلدان شرق أوروبا. كانت المفارقة شديدة الاثارة من حيث الزمان والمكان. فقد وقعت الكارثة في اعقاب تساقط نجوم الثورات الملونة ممن سبق وحاول كاتشينسكي ان يكونوا اسلحته لتصفية حسابات قديمة مع موسكو. وكان قد بذل الكثير من اجل تنظيم اجتماعاتهم المشتركة في وارسو والعواصم التي كان يشتم منها رائحة العداء للقيادة الروسية. قضي الرئيس البولندي نحبه في توقيت اعقب الاطاحة في قيرغيزيا بزعيم اختار خيانة الاصدقاء ممن قدموا له الدعم واغدقوا لشعبه العطاء حين ضاقت به السبل. غادر المشهد السياسي بعد هزيمة مهينة لقيها فيكتور يوشينكوصديقه الشخصي وزعيم الثورة البرتقالية في اوكرانيا. رحل كاتشينسكي عن دنيانا ودنياهم بعد افول نجم صديقهما المشترك ميخائيل ساكاشفيلي قبل ذلك باقل من عامين اثر هزيمته العسكرية في القوقاز دون ان تفلح زيارته ورفاقه لتبليسي في التخفيف من وقع احزانه. وبقي كاتشينسكي وحيدا ينشد الدعم الامريكي ويشكوتراجع اوباما عما سبق ووقعته كونداليزا رايس من اتفاق حول نشر عناصر الدرع الصاروخية الامريكية في الاراضي البولندية. بقي وحده يحاول العثور في كوارث الماضي علي ما يشحذ الذاكرة والعزيمة علي مواصلة النضال!. اما المكان فكان مقاطعة سمولينسك غربي روسيا التي شد الرئيس البولندي الرحال اليها مع عدد يزيد عن الثمانين من ممثلي الصفوة البولندية للاحتفال بذكري مواطنيه. لقي الجميع مصرعهم علي مبعدة مئات الامتار من النصب التذكاري الذي اقيم بهذه المناسبة. وحين استقر الرأي واجمع الكثيرون من روسيا ايضا علي ادانة الاسود في تاريخ الماضي ومنه مذبحة كاتين التي راح ضحيتها الالوف من خيرة ضباط ومثقفي بولندا خلال الحرب العالمية الثانية ممن امر ستالين باعدامهم رميا بالرصاص جاءت النهاية مأساوية سوداوية مفعمة بشكوك كثيرة تطايرت في ارجاء المكان وما وراء حدوده دون سند حسبما تقول التحقيقات المبدئية. سارع البعض ليربط بين سقوط طائرة الرئيس الروسية الصناعة والبولندية القيادة وبين تاريخ الامس القريب الذي كان معظمه مفعما بالعداء لموسكو. وكان ليخ كاتشينسكي بدأ رحلة العداء للسوفييت في نهاية سبعينيات القرن الماضي ولم يكن بلغ الثلاثين من العمر حين شارك في اضرابات عمال ميناء جدانسك قبل انضمامه الي منظمة التضامن البولندية في جدانسك في مطلع الثمانينيات. كشف عن اهتمام كبير بالدفاع عن حقوقهم وحقوق وطنه انطلاقا من دراسته للقانون في كلية الحقوق. حرص علي الاهتمام بالحياة العامة وعمل مستشارا للرئيس ليخ فالينسيا ثم وزيرا للعدل. وخاض انتخابات مجلس السيم( البرلمان) ليفوز بعضويته. وتدرج كاتشينسكي في الصعود معتمدا علي حزبه الذي شكله مع شقيقه التوأم ياروسلاف واختار له اسم العدالة اليمينية ليفوز في انتخابات2001 بقدر ساهم الي حد كبير في تقدمه نحوقمة السلطة التي تسنمها لاحقا انطلاقا من موقعه كعمدة للعاصمة وارسو. آنذاك كشف كاتشينسكي صراحة عن كراهيته الشديدة لموسكو حين تعمد اطلاق اسم جوهر دودايف الزعيم الشيشاني علي احد ميادين العاصمة وارسورغم ادراكه لما يعنيه بالنسبة لها وهوالذي كان احد ابرز خصومها واعدائها. قال ان موسكوتتعمد اهانة بولندا وتواصل محاولاتها للابقاء عليها ضمن مناطق نفوذها. تزعم محاولات فرض العقوبات ضدها والحيلولة دون تقاربها مع الاتحاد الاوروبي. وكان شديد العداء لسياسات بوتين الذي اتهمه باشعال نيران حرب الغاز ضد اوروبا, غير ان اختراقا تبدت ملامحه في العلاقات بين البلدين بعد نجاح دونالد توسك في الانتخابات البرلمانية وتوليه منصب رئيس الحكومة البولندية خلفا لياروسلاف كاتشينسكي الذي سبق وكلفه برئاستها شقيقه التوأم ليخ كاتشينسكي الذي يصغره بخمس واربعين دقيقة. وكان بوتين حرص علي تنقية الاجواء وقام بزيارة بولندا وكشف عن رغبته في دعوة نظيره البولندي توسك للمشاركة سوية في الاحتفال بذكري ضحايا كاتين في السابع من ابريل الجاري وهوما علق عليه ليخ كاتشينسكي بقوله:' ان الرئيس يظل الاهم في مثل هذه المناسبات' مؤكدا انه سوف يشارك في حال حصوله علي التاشيرة. ولذا فقد سارعت الاجهزة الرسمية الروسية الي تنظيم الاحتفالات التي جرت يوم السبت الماضي ولم يقدر للرئيس وقرينته حضورها والوفد المرافق لهما وإن حضرها ما يقرب من ثلاثمائة من ابناء واحفاد الضحايا ممن اختاروا القطار سبيلا الي المكان. سارعت موسكوالرسمية ايضا بالاعراب عن تعازيها واتصل الرئيس ميدفيديف برئيس الحكومة البولندية يؤكد له اتخاذ كل الاجراءات الرامية الي تقصي كل الحقائق معلنا عن استعداد موسكو لاستقبال ممثلي الاجهزة البولندية المعنية لبحث اسباب الحادث, وكلف ميدفيديف رئيس حكومته بوتين برئاسة لجنة التحقيق الروسية فيما صار من المقرر ان يلتقي رئيسا الحكومتين في سمولينسك لمتابعة اجراءات التحقيق في واحدة من اكبر الكوارث الانسانية ماساوية والتي حصدت ما يقرب من نصف قوام القيادات السياسية والعسكرية وممثلي المنظمات الاجتماعية في بولندا.