فى وقت أصبح فيه صوت الإرهاب يطارد صوت العقل في كثير من بقاع المعمورة، كان ولابد للدراما العربية أن تخرج من الكليشيهات التقليدية لترتدي ثوب التجديد وتحمل زمام المبادرة لتقف في وجه العنف والقتل والإجرام، ومن ثم كانت تصلح فكرة المسلسل التاريخي «سمرقند» لأن تكون مادة جيدة لصنع ذلك، خاصة أنه يحكي قصة تلك المدينة التي جمعت عبر إحدى مراحلها التاريخية تيارات مختلفة ترمز إلى ما نعيشه اليوم من اختلاف التوجهات والمعتقدات، وذلك طبقا لرؤية كاتب السيناريو الأردني «محمد البطوش» الذي قال: «سمرقند عمل جديد من كافة النواحي، وخاصة من حيث البناء الدرامي والقصة الافتراضية، فالقصة هي حدوتة افتراضية عن جارية تباع وتشترى وتتحول لتصبح الوصيفة الأولى للملكة في قصر أهم ملك في تلك الفترة، حتى تصبح أيضاً صاحبة قرار، وهذه القصة هي التي تشكل البناء الدرامي الأساسي للعمل مع كافة الرسائل التي يمكن أن نقدمها من خلال هذا العمل، وأيد رؤيته مخرج المسلسل «إياد الخزوز» بقوله: أستهدف من خلال مسلسل «سمرقند» فئات لم تكن تتابع الأعمال التاريخية، وذلك بإعطاء مساحة جيدة للمرأة في العمل، وإيجاد حكايات شبابية شيقة، بالإضافة إلى اعتمادنا على تكنيك عالمي في الإخراج سيعيد للعمل التاريخي رونقه ومكانته بين الأعمال الدرامية الرمضانية، فهو ليس مسلسلا تاريخيا بحتا، بل هو خليط بين العمل التاريخي والمعاصر. لكن الواقع الذي صدمني بعد المشاهدة أن المسلسل من حيث البناء الدرامي لم يوفق في إيصال رسائله على نحو جيد، رغم أن المؤلف استوحى فكرته بالأساس من رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب اللبنانى «أمين معلوف»، مستندا في مرجعيته التاريخية على أمهات الكتب العربية، مثل «البداية والنهاية» لابن كثير و»الكامل في التاريخ» لابن الأثير، و لم يفلح المخرج في صناعة صورة تليفزيونية مبهرة، ولعل قصور الإضاءة والديكور قد أضاعا عليه فرصة العمل بتكنيك عالمي يستطيع أن يعيد للعمل التاريخي رونقه ومكانته بين الأعمال الدرامية الرمضانية، كما ادعى من قبل. يقيني أنه كانت هنالك مقومات كثيرة للنجاح والفوز بمتعة المشاهدة التي تحمل في طياتها كثيرا من الرسائل المبطنة بفعل سياسي رجيم، مغلف بطابع التمزق ونظرية المؤامرة التي نحياها الآن في ظل أكبر اجتياح إرهابي لكثير من مناطق العالم ، فلسنا أمام مسلسل تاريخي بحت، بل هو خليط بين العمل التاريخي والمعاصر، ومن ثم فهو يسقط على الواقع بمقدار ما ينقل حقيقة ما حدث فى الماضي في قالب تاريخي عن حياة السلاطين وعلاقاتهم بالجواري والخدم فى الزمن القديم، جامعا في الوقت ذاته بين حياة الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، ورفيقه «حسن الصباح» قائد فرقة الحشاشين، وهو أول من صنع جماعات التصفية البشرية، بل إنه يعد أقوى نظام اغتيالات عرفه التاريخ، لكن صناع العمل فشلوا جميعا في تحقيق الهدف المرجو من «سمرقند» بحبكة درامية تكتب له النجاح والتميز المطلوبين. أسباب الفشل تبدو كثيرة، ومنها: جاءت معالجة شخصية «حسن الصباح» من حيث الشكل الخارجي بطريقة ساذجة وغير منطقية بالمرة فى أولى حلقات المسلسل، حين تصدى لمجموعة من الجنود في قلب إحدى الأسواق الشعبية وبمفرده تمكن من هزيمتهم، وتبدو عدم منطقية هذا المشهد في أن فعل القوة الخارقة لا يتناسب تماما مع التكوين الجسماني للبطل «فهد عابد»، علما بأن الثابت تاريخيا أن عبقرية «حسن بن الصباح» كانت تتركز في قدرته التنظيمية والفكرية، ولعل هذا ما أهله لتكوين تنظيم عسكري وعقائدى من أكثر التنظيمات تعقيدا على مر التاريخ. ربما حاول المؤلف جاهدا تناول شخصية الوزير «نظام الملك» بشكل دقيق ومنضبط تاريخياً، ومعه حاول المخرج إظهار نشاطه وكفاءته وضبطه للأمور وحرصه على استقرار البلاد وإقامة العدل، لكن أداءا باردا من جانب «عاكف نجم» حال دون الاقتراب من حقيقة أكثر الشخصيات تأثيراً أيام السلطان «ألب أرسلان»، وهو الذي كان يعتبر أحد أهم الشخصيات فى التاريخ الإسلامي، وعبثا حاول صناع العمل صنع حبكة درامية ترصد الصراع فى حريم السلطان «ملك شاه» من خلال العلاقة بين «زبيدة» أم «السلطان بركيارق» التي جسدتها يارا صبري بأداء صوتي قوي وحركات وإيماءات أنثوية خبيثة توافق جوهر الشخصية المشحونة بكم الحقد والكراهية تجاه «تركان» أم «السلطان محمود» التي قامت بأداء دورها «ميساء مغربي» لكن الأداء المترهل من جانبها أضعف غالبية المشاهد التي ظهرت فيها فتاة جميلة فقط ، لكنها تبدو بليدة الإحساس والمشاعر. وعلى العكس تماما كانت وصيفتها «نيرمين» والتي أدتها «أمل بشوشة» بشكل عفوي يؤكد موهبتها ونضجها في تجارب الدراما التليفزيونية، ويبدو لي أن «أمل» في تجربتها الثانية في الأداء باللغة العربية الفصحى، أدركت جيدا قبل أن تقبل على تجسيد تلك الشخصية أن مكونات الممثل المتميز في الأداء لابد أن تتوزع بين المرونة الجسدية والصوت المعبر والحركة والتعبير والخيال والإحساس بالصدق، تماما كما جاء في تقديمها لشخصية الجارية «نيرمين»، فالإحساس بالكراهية في مشهد، ثم يليه إحساس آخر بالحب والانتماء لمليكتها يؤكد براعتها كممثلة تعرف كيف تدير عواطفها على نحو يخدم الدور الذي تؤديه, وأفضل طريقة يقوم بها الممثل للسيطرة على عواطفه – على حد وصف الأكاديميين - هي «أن يحلل طبيعة إشاراته التلقائية, كما يجب أن يعرف الخصال النفسية والجسمانية والاجتماعية المتأصلة لديه» حتى يتمكن من توظيفها في مسار صحيح يحقق له الوصول إلى قمة الأداء الصعب. وعلى هشاشة المشهد الأول فقد نجح «عابد فهد» بحنكته وخبرته الطويلة في مجال الأعمال التاريخية أن يتجاوز كثيرا من الصعاب في أداء دور «حسن الصباح» حين أكسبه نوعا من الدهاء، كما بدا في قسمات وجهه ورشاقة حركته في عديد من المواقف الصعبة، ولقد عايش «عابد فهد» شخصية «الصباح» بقدر من الواقعية جراء اعتياده تلك البيئات التاريخية، ونجح في إظهاره قوى الشكيمة، ودائم حضور الذهن في تلقين تابعيه أو فدائييه الذين يتمتعون بالحرص الشديد والطاعة والمقدرة على تنفيذ المهمات الموكلة لهم. ظني أنه كان يمكن أن يكون مسلسل «سمرقند» متعة حقيقية باعتباره العمل التاريخي الأضخم لهذا العام، حيث استطاع أن يضع ميزانية كبيرة قام من خلالها بجمع مجموعة كبيرة من الفنانين العرب من المحيط إلى الخليج، لولا ضعف المعالجة في غالبية العناصر الفنية، فضلا عن حالات لا تحصى من أداء تمثيلي ضعيف ومرتبك لاحظناه على الشاشة الصغيرة لممثلين هم بكل المقاييس على درجة عالية من الموهبة، ويمتلكون قدرات مميزة وحضوراً لافتاً، بل إن كثيرامنهم يحملون تاريخاً ناصعاً في فن الدراما التليفزيونية وحتى المسرحية والسينمائية، ومن ثم لم تكتمل المتعة. [email protected]