لم تنفع سياسة النأي بالنفس التي انتهجها رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي لتحول دون وصول نيران لعنة الأسد إلي الداخل اللبناني. حيث ظل رئيس الوزراء اللبناني وحكومته ينأون بالنفس منذ اندلاع الأحداث في سوريا وحتي اليوم, لتفاجئ رئيس الوزراء وحكومته في عقر داره لأنه ابن طرابلس.فبعد إعتداءات متكررة من كتائب الأسد علي الأراضي اللبنانية بحجة مطاردة المسلحين مرة, ومهاجمة مهربي السلاح للثوار مرة أخري لم تتخذ حكومة نجيب ميقاتي أي رد فعل تجاه سوريا, وبعد أحداث وإعتدءات سورية متفرقة في لبنان علي المناطق الحدودية جاءت القشة التي قصمت ظهر بعير النأي بالنفس,فاشعلت طرابلس بلعنة الأسد رصاصا وقذائف وعشرات القتلي والجرحي. وماكانت هذه القشة إلا قيام أجهزة الأمن اللبنانية بتوقيف شاب لبناني ذي توجه إسلامي يدعي شادي المولوي علي خلفية ارتباطه بتنظيم القاعدة والثوار السوريين وقيامه بتهريب السلاح إليهم بل ودخوله إلي سوريا للقتال إلي جانب الثوارحسب قول اللواء عباس ابراهيم مدير الأمن العام اللبناني. وبالرغم من إطلاق سراح الشاب المتهم بعد أيام من الإعتصامات وقطع الطرقات والإقتتال بين جبل محسن وباب التبانة, وبالرغم من تحرك الجيش السريع إلي طرابلس للسيطرة علي الأحداث استمرت الحرب الدائرة بين جبل محسن ذي الأقلية العلوية المنسوبة إلي طائفة بشار الأسد, وبين الأغلبية السنية في باب التبانة بدعم من شيوخ السلفية الذين يتخذون من طرابلس مقرا لهم. وكالعادة إزدادت حدة الانقسامات في الشارع اللبناني بين السياسيين, فمنذ بداية إشتعال الثورة السورية والساسة في لبنان منقسمون إلي فريقين, الأول يؤيد النظام السوري ويقوده حزب الله ومعه تيار الإصلاح والتغيير بقيادة العماد ميشال عون فيما يعرف بفريق8 آذار,والثاني ذهب علانية إلي تأييد الثورة السورية ويقوده تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري ومعه فريق14 آذار حزبا الكتائب اللبنانية بزعامة رئيس لبنان الأسبق أمين الجميل والقوات اللبنانية بزعامة الدكتور سمير جعجع والذي يتهمه الفريق الأول بدعم الثوار في سوريا وتهريب السلاح إليهم بمساعدة السعودية وقطروتركيا, ويأوي المعارضين السوريين الفارين من تصاعد هجوم كتائب الأسد بعد سقوط حمص ودرعا بأيدي الجيش السوري الحكومي. واتهم الفريق الداعم للأسد الفريق الداعم للثورة السورية بأنه يريد جر لبنان إلي أتون الأحداث السورية لتخفيف الضغط عن المعارضة السورية المدعومة تركيا وسعوديا وقطريا, وذلك بعد نجاح الجيش اللبناني منذ شهرين في توقيف سفينة أسلحة ضخمة في المياة الإقليمية اللبنانية كانت قادمة من ليبيا إلي الثوار داخل سوريا عن طريق طرابلس,ذات الأغلبية السنية الداعمة للثورة السورية,ورد عليه الفريق الداعم للثورة بأن مايحدث في طرابلس لاعلاقة له بالأحداث السورية وهو ماتنفيه الوقائع علي أرض الواقع مؤكدين أن الطائفة السنية مستهدفة بالحصار داخل الحكومة والشارع اللبناني مثلما هي مستهدفة في الشارع السوري ذي الأغلبية السنية علي أيدي كتائب الاسد. ومن جانبها تحركت السفيرة الامريكية في بيروت والتقت رئيس الحكومة وبعض القوي السياسية معبرة عن القلق الأمريكي من نقل مايحدث في سوريا الي الداخل اللبناني الهش والذي لايحتمل صراعات جديدة. وبعد مرور أكثر من اسبوعين من إطلاق سراح المولوي بكفالة علي ذمة التحقيق, لاتزال الحرب دائرة بين أبناء الوطن الواحد بين طرفين أحدهما يدعم النظام السوري الذي يرتكب المجازر يوميا علي مرأي ومسمع من العالم, وفي النهاية لايدفع الثمن إلا لبنان وسياحته واقتصاده الذي تأثر سلبا بعد قرار قطر والإمارات والبحرين نصح رعاياها بعدم السفر إلي لبنان ومطالبة رعاياها الموجودين في لبنان بالمغادرة فورا نظرا لإنعدام الأمن, وخوفا علي حياتهم, وهو مادفع رئيس الوزراء اللبناني إلي مخاطبة الدول الثلاث بالتريث في تنفيذ القرار القاضي بحرمان لبنان من السياحة الخليجية خلال الصيف وهو ماسيضرب الإقتصاد والسياحة اللبنانيين في مقتل هذا الصيف. وتطرح أحداث طرابلس المستمرة منذ أكثر من شهرين متتاليين أسئلة عديدة حول أهداف المجموعات الإسلامية المتطرفة من النزول إلي الشارع وتفجير الوضع في المدينة, حيث تؤكد كل المعطيات أن ما قامت به هذه المجموعات كان مفتعلا منذ البداية, وأن توقيف أحد المنتمين إلي هذه المجموعات لم يكن سوي حجة للإقدام علي هذا التوتر الذي يكبر يوما بعد يوم مثل كرة الثلج ولكنها ليس ثلجا بل هي نار تحرق الجميع. ومن الملاحظ إن حجم ما جري لا يتناسب علي الإطلاق مع توقيف شخص متهم, وأن ردود فعل هذه المجموعات يثير الدهشة والاستغراب, حيث إن هناك حوادث عديدة حصلت في مناطق مختلفة علي أيد ي القوي الأمنية تجاوزت ما جري بالنسبة لشادي مولوي بكثير, بل إن بعضها أدي إلي مقتل عدد من الأشخاص, وعلي سبيل المثال فقد أقدمت قوي الأمن الداخلي أخيرا في الهرمل علي إطلاق النار علي سيارة أحد المطلوبين, مما أدي إلي مقتله ووالدته وإصابة زوجته وخادمة أثيوبية, وبالرغم من ذلك لم تقم القيامة في المنطقة ولم ينزل المسلحون علي الأرض أو تقطع الطرق, فلماذا حصل ما حصل في طرابلس فور الإعلان عن توقيف المولوي المتهم بالانتماء إلي تنظيم إرهابي وتهريب السلاح وغير ذلك؟ كل ذلك يؤكد أن هذه المجموعات استغلت توقيف مولوي لتنتشر في أحياء طرابلس وتفتعل التوترات والتفجيرات, ثم ما لبث أن تفاقم الموقف بعد دخول عدد كبير من المسلحين التابعين إلي ما يسمي الجيش السوري الحر إلي طرابلس والانتشار في بعض أحيائها والاعتداء بإطلاق النار علي الجيش اللبناني في أكثر من منطقة, وهناك عدد من جرحي هؤلاء المسلحين في المستشفيات وبعض الأمكنة. ويؤكد المراقبون خاصة المؤيدين لبشار الأسد أن مايحصل في طرابلس لايزال مستمرا وليس منفصلا عن خطة شاملة ترمي إلي إرباك الجيش اللبناني في طرابلس والمناطق الشمالية الداخلية لإضعاف أدائه علي الحدود السورية بهدف تعزيز فرص تهريب السلاح والمسلحين إلي سوريا, خصوصا بعد أن نجح الجيش بنسبة معينة في ضبط العديد من هذه العمليات. وتعود الغاية من افتعال هذه الأحداث بالطريقة التي جرت لتشمل أيضا خلق أجواء فتنة مذهبية في طرابلس وتوسيعها لتشمل عكار. وإذا نجحت هذه الخطة فإن انتقال عدوي الفتنة إلي مناطق أخري في لبنان يصبح خطرا جديا وحقيقيا, وهذا ما يؤكد أن ما تقوم به هذه المجموعات في أحياء طرابلس ليس مجرد ردة فعل عفوية علي توقيف المولوي, وليس مجرد اشتباكات محدودة بين باب التبانة وجبل محسن, بل هو في سياق خطة أوسع بين أطراف لبنانية كما يقول مؤيدو الأسد,وما يسمي المعارضة السورية,حيث انتقلت بعض هذه المواجهات إلي العاصمة بيروت في طريق الجديدة ذي الأغلبية السنية وبين أحد الأحزاب اللبنانية المناصرة للنظام السوري. وإذا كانت الجهات العابثة بالأمن السوري قبل أحداث طرابلس الأخيرة قادرة علي نقل ما يحصل في الداخل السوري إلي الحدود اللبنانية السورية أو إلي المناطق الشمالية القريبة من الحدود, غير أنها نجحت بمساع خارجية طبعا في مد الصراع الطائفي من هناك إلي طرابلس التي تشتعل فيها الأوضاع الأمنية بين جبل محسن وباب التبانة منذ سنوات. فالجهات الدخيلة تعتمد غالبا علي الفجوات لتنفيذ مخططاتها, ويبدو أن مخططها الحالي هو ضرورة انعكاس ما يجري في سوريا علي لبنان, وقد استغلت وجود ثغرة في طرابلس لم تستطع كل المساعي السياسية السابقة لمسئولي المنطقة من ردمها. وبالرغم من انتشار الجيش في شوارع المدينة وطرقاتها لاتزال طلقات القناصة تدوي بين الحين والآخر معبرة أنه لايصوت يعلو فوق صوت الرصاص, فهل يستطيع الجيش المدعوم سياسيا وحكوميا السيطرة علي الأحداث المتسارعة والمتصادمة في طرابلس؟ أم أنه سيهيل التراب علي نار لاتزال مشتعلة تنتظر قليلا من هواء الطائفية والمذهبية لتشتعل من جديد, حارقة في طريقها الأخضر واليابس و8 آذار و14 آذار ولبنان بأكملها؟.