للسيدة مارجريت ثاتشر مقولة شهيرة هى أن «الله خلق القنال الانجليزى ليفصل بين بريطانيا وأوروبا»، وأنه لم يخلقه عبثا، لكن الواقع مختلف لأن القناة لم تحم بريطانيا من هجمات قبائل الفايكنج الاسكندنافية ومن الرومان والألمان والفرنسيين والهولنديين. بريطانيا – الجزيرة – لم تقبل العزلة وخاضت صراعات دموية مع دول أوروبية فى أوروبا ذاتها وتحالفت مع دول أوروبية ضد دول أوروبية أخرى فى حروب داخل القارة وخارجها. وفى عهد التوسع الاستعمارى لم تنزو بريطانيا، بل تنافست مع البرتغال وهولندا وفرنسا وأسبانيا فى آسيا وإفريقيا والأمريكيتين حتى أصبحت الجزيرة إمبراطورية. وفى القرن العشرين أنشأت مع فرنسا قطار «اليورو ستار» تحت القنال لربط لندن بباريس وببروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي. وقبل أيام صوت بريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج من الاتحاد الأوروبى ولم يدرك هؤلاء بأن الخروج يعنى تقسيم المملكة المتحدة التى لن تبقى متحدة بعده، بعض الانجليز لا يعبأون ببقاء اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية ضمن المملكة ويعتقدون أن لديهم من الإمكانات والقوى البشرية ما يجعل انجلترا دولة غنية وقوية لا تحتاج إلى شركائها فى هذا الكيان. أقصى اليمين البريطانى عاش حالة تناقض فى تسليطه كل النقد للاتحاد الأوروبى بحجة انتقاصة للسيادة وصناعة القرار فى بروكسل وتجنبه نقد عضوية بريطانيا فى حلف الأطلسى التى تخصم من السيادة والقرار المستقل ويقبل هيمنة الولاياتالمتحدة على الحلف تسليحا وإستراتيجية وقرارا ويصمت عن أكبر قاعدة تصنت أمريكية فى إحدى ضواحى لندن وعن القواعد النووية الأمريكية اللتين لا سيادة لبريطانيا عليهما. فى مطلع هذا القرن اهتز مبدأ السيادة لصالح العولمة ولصالح ما يسمى ب «المجتمع الدولي» الذى يجسد المصالح الغربية فى المقام الأول. وبجانب التجاهل المتعمد للعلاقة مع حلف الأطلسى يسكت اليمين البريطانى عن «العلاقة الخاصة مع الولاياتالمتحدة» التى لا تخرج عن علاقة التابع بالمتبوع والآمر بالمأمور. هذه العلاقة ليست فى واشنطن ركيزة أساسية للعلاقة مع لندن ولكنها توظفها عندما تتطلب مصالحها قيام بريطانيا بأداء دور عسكرى مساند كما حصل فى حرب العراق عام 2003 وحينها لم يجد جورج دبليو بوش نفسه مضطرا لذكرها ولومرة واحدة. وفى عهد الرئيس الحالى أوباما بدأ تفكيك هذه العلاقة وكان أول ما عمله إزاحة تمثال صغير لتشرشل كان موضوعا فى زاوية صغيرة فى البيت الأبيض. تشرشل هو الذى أسس بدهاء هذه العلاقة عقب الحرب العالمية الثانية التى أرخت لبدء الهيمنة الأمريكية على العالم ولغروب شمس بريطانيا عنه. وحديثا يمكن القول بأن سياسة تونى بلير رئيس الوزراء العمالى الأسبق هى التى أوصلت البريطانيين إلى نتيجة هذا الاستفتاء المذل فعلا، لأنه كان مهندس ضم دول أوروبا الشرقية والوسطى إلى الاتحاد الأوروبي. كان لبلير هدفان أولهما توفير عمالة بيضاء متنوعة رخيصة تغنى بريطانيا عن العمالة الملونة بخلفياتها الدينية والثقافية المختلفة التى ينافس ويضعف بعضها النفوذ الإسرائيلى فى بريطانيا ويؤثر سلبا على نفوذ الأقلية اليهودية التى تبلغ 300 ألف نسمة ولكنها استحوذت فى عهده على 21 من مقاعد مجلس العموم ال 650 . وثانيهما ربط هذه الدول بأوروبا وبالأطلسى لتطويق روسيا وحصارها عسكريا وإضعافها اقتصاديا بجعل تفاعلاتها وتبادلاتها مع أوروبا أقوى من الجار الروسى وجعل أمنها جزءا من أمن دول الأطسى وليس دول الجوار وأهمها روسيا. لقد كان التخويف من المهاجرين موضوعا رئيسيا لمعسكر الخروج وخاصة إزاء انضمام تركيا إلى الاتحاد لأن الأتراك وفقا له سيتدفقون على بريطانيا كالجراد ومعهم كل موبقات الأرض من جرائم واغتصاب ومخدرات وعصابات الخ.. تاريخيا لم تكن علاقة بريطانيا بالسوق الأوروبية المشتركة سلسة فقد سادها ضيق لتدنى مساهمة بريطانيا فى ميزانية السوق ثم ميزانية الاتحاد الأوروبي. التاريخ البريطانى ابتداء من شركة الهندالشرقية وحتى اليوم يقول إن بريطانيا اعتادت أن تأخذ أكثر ما تعطى وفى الحساب الأخير لا يهمها كثيرا موقعها المهيمن مع فرنسا وألمانيا فى الاتحاد ومشاركتها فى قيادة أهم منظمة مدنية دولية بعد الأممالمتحدة.الملاحظ أن العمال وحزب الديمقراطيين الأحرار أكثر ميلا لأوربة بريطانيا وإدماجها فى هياكلها ومؤسساتها واقتصادها. المحافظون طوال نصف قرن حاولوا التصحيح من داخل الاتحاد ولم يهددوا بالانسحاب إلا فى عهد رئيس الوزراء الحالى ديفيد كاميرون صاحب دعوة الاستفتاء التى يندم عليها اليوم . لقد كان أول معول رفع لهدم الرابطة الأوروبية عندما أسس نايجل فراج حزب استقلال المملكة المتحدة يوكيب الذى قوبل بالاستخفاف وقيل وقتذاك أن لا مستقبل لحزبه لأنه لا يمتلك برنامجا انتخابيا يوصله إلى البرلمان وبثقة طلق البعض السياسة وتنبأ بأن هذا الحزب لن يصل إلى مجلس العموم. ومع هذا حقق الحزب أول انتصاراته بحصوله على مقعد فى البرلمان الأوروبى الذى يعادى الحزب منظمته الأم (الاتحاد الأوروبي) ثم دخل مجلس العموم وقريبا قد يشكل حكومة تبنى على نتائج الاستفتاء وتمارس الطلاق مع الاتحاد الأوروبى وليس مع دول أوروبا كما يقول هؤلاء. فراج هو أحد صانعى كراهية الأجانب والتخويف من وجودهم وقد زيف مع غيره وعى البعض كالزعم بأن سبب انتشار الجرائم هو الهجرة. لا مجال للإنكار بأن نتيجة الاستفتاء نكسة وأن بريطانيا هى الطرف الخاسر فى كل المجالات بما فيها التعايش وقبول التعددية الثقافية والعرقية فى أراضيها وهو الذى منحها مكانة طليعية فى الاتحاد بما يؤكد بأن بريطانيا قبلت راضية أو مكرهة إحدى نتائج التوسع الإمبراطورى ذى الطريقين، وليس وجود تمثالين ضخمين للمهاتما غاندى وولسون مانديلا بجانب تمثال ونستون تشرشل أمام البرلمان البريطانى إلا تعبيرا قويا عن هذه الحقيقة. سفير الجامعة العربية فى بريطانيا سابقا لمزيد من مقالات على محسن حميد