البداية كانت تجارب فردية ومحاولات لابتكار طرق غير تقليدية لتيسير العيش على جار رقيق الحال أو عامل بسيط أو يتيم بلا أهل أو عجوز بلا عائل أو قعيد بلا دخل.. باختصار كان التعامل مع حالات معروف تاريخها وتفاصيلها وكيف ولماذا أصبح متعذرا عليها كسب قوتها لذا كان من الرائع أن تطرق باب هؤلاء فى أى وقت من العام وليس فقط شهر رمضان لتهدى إليهم أساسيات الطعام.. لكن الآن أصبح هناك احتراف لمهنة أو هواية توزيع ما تعارف عليه باسم «شنط رمضان» ومع الاحتراف سقطت للأسف التفاصيل وضاع عمل الخير وأهدرت الأموال فى توزيع ملايين الكراتين التى تذهب لمستحق تارة فى مقابل عشرات غير مستحقين.. لم نكتب هذه السطور لنمنع الأيادى البيضاء من العطاء، ولكن لندفع الكثير لاعادة التفكير فى منهج استشرى فى المجتمع المصرى على مستوى الأفراد والجمعيات التى تدعو المسلمين فى اعلانات صحفية مكثفة لدفع أموال زكاتهم وصدقاتهم فى صورة عبوات صغيرة من المكرونة والبقول الجافة والزيت أو المسلى المهدرج مجمعة فى كرتونة لا تسمن ولا تغنى من جوع ولن تكفى آخذها فى رمضان الحالى أو القادم ذل الاحتياج.. وتتوافد الطوابير على مراكز الجمعيات لحمل الكراتين وإطلاق الزغاريد ونشر الصور والأرقام مرة أخري، فما الذى تحقق لهذه الأسرة وهل يستحق ما تم انفاقه بالملايين !! «منى سالم» بعد خبرة طويلة وعميقة فى العمل الخيرى ترفض بشدة العمل بشكل مؤسسى فى ظاهرة كراتين رمضان، سواء بشكل فردى أو من خلال الجمعية التى تقدمت بأوراق تأسيسها إلى التضامن الاجتماعى تحت مسمى: فرحة تجمعنا، تقول محدثتنا: السلبيات التى تحيط بقصة كراتين الزيت والسكر أكبر بكثير من الايجابيات المحتملة، وليس صحيحا أنه تتم دراسة الحالات بالدقة المستحقة لهذه المنحة، كما أن العديد من الأسر يتحايلون للحصول على هذه الكراتين من جهات متعددة، بل إن الكثير وهذا مارأيته شخصيا يلجأون لإعادة بيع محتويات الكرتونة لدى البقال بسعر أقل بالطبع من سعرها الحقيقي، ليقوم هو بإعادة بيعها بسعرها الحقيقى وكأن التبرع هنا ذهب لصاحب محل البقالة، وبالمناسبة فكثير من المحتاجين يتعاملون بهذا المبدأ أخذ المنتج أو الدواء وإعادة بيعه، لرغبته فى الإمساك بالنقود وتوزيعها كما يشاء وربما يعطى الأولوية لشيء غير ذى قيمة لمصروفه الشخصى مثلا أوسجائره من هو المستحق ؟ ولكن هل يكون الحل هو التوقف عن التبرع بهذه الأطعمة رغم أن إغناء الناس وتوفير الطعام فى بيوتهم أمر مطلوب فى رمضان ؟ تجيب «سالم» : الحل فى عمل إعادة تغيير لمفهوم التعامل مع المحتاجين والفقراء، يكون هدفه الأساسى مساعدة الفقير على كسب قوته وقوت عياله، وليس مساعدته على الأكل والشرب فى شهر رمضان، لأن احتياجات الإنسان من الغذاء والكساء والدواء متجددة ولا تتوقف، فربما يجد اليوم من يعطيه وغدا لايجده، لذا لابد أن يكون له دخل ولو قليلا، هنا يمكن المساعدة، وتضيف لمصلحة مجتمعنا يجب أن نتوقف عن تحويل الفقير لمتسول دائم مع سبق الإصرار والترصد، فللأسف وعن طول التعامل مع حالات فى هذا المجال تأكد أن المحتاج يستمرئ العطاء أيا كان نوعه، فلوس أو أكل أو ملابس، لكن عندما يتم عرض العمل عليه يرفض ويتهرب، لأنه يريد الحل السهل، والمتبرع أيضا يريد الحل السهل يجمع صدقته أو زكاته ويلقى بها لمن يبدو عليه الاحتياج، أو يضعها فى حساب احدى الجمعيات، والنتيجة أن الكثير من المال يهدر فى غير موضعه، وهناك عدة نصائح للمتبرع يجب أن يضعها فى الاعتبار: أولا أن كل حالة مهما كانت مريضة يمكن أن تجد لها عملا أو تساعدها على بدء مشروع فى البيت يناسب ظروفها، نستثنى من ذلك الحالات التى تكون صحيا متدهورة لأقصى درجة، ولا تسمح جسديا ولا عقليا بأى عمل فهؤلاء يستحقون الكفالة الشهرية، ثانيا: يجب على كل متبرع أن يكون واثقا من ظروف الحالة التى يساعدها، إما بشكل شخصى أو عن طريق قريب موثوق به، أو بالنزول شخصيا لمكان سكن الحالة والتقصى عنها جيدا وهذا هو أساس العمل الخيرى الناجح أما الاعتماد على ما تقدمه الحالة من أوراق وروشتات طبية أو حتى بحث إجتماعى فلا يكفي، وتضيف لقد قابلنا حالات لناس يدعون أنهم غارمون ويجمعون بموجب إيصالات الأمانة مبالغ طائلة من أصحاب القلوب الرقيقة، ومنهم من كان الدين حقيقيا ولكنه يجمعه عدة مرات، ومنهم من كان الدين وهميا بالاتفاق مع أحد الاشخاص نظير عمولة!! وهذا الكلام لا يعنى تشويه العمل الخيرى أو تقليل أهميته بقدر ما هو رسالة تطالب بجدية أكثر فى التعامل وتحذر فى الوقت نفسه من تحويل مجتمع الفقراء لحفنة من العاطلين فى حين أن بالإمكان جعلهم منتجين، وربما يكونون من دافعى الزكاة ذات يوم. السؤال حرام الأصل فى العطاء أنه يتم بأموال زكاة أو صدقات والدافع بالطبع يكون دينيا بحتا وإستجابة لتعاليم الدين بالعطف على الفقراء والمحتاجين، ولكن كيف يتم ذلك ونحن نرى العطف يحول الكثير لمتواكلين ومتلقين.. الشيخ عمر الديب عضو هيئة كبار العلماء يفك هذا الالتباس بتوضيح القاعدة الأساسية للمسلم فقيرا كان أم غنيا ألا وهى العمل، مشيرا إلى أن من يتتبع قصص الصحابة وسير الأنبياء يجد أن ما من أحد إلا وبلغنا أنه كان له عمل يتكسب منه يستوى فى ذلك أن يكون العمل بسيطا كرعى الأغنام أو عظيما كالتجارة والخروج بقوافل البضائع لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر أن أفضل ما يأكله المرء هو ماكان ثمرة كده: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» بل إن مرتبة السعى والعمل تصل لمرتبة السعى فى سبيل الله ومما قاله النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «.. إن كانَ خرجَ يسعى على ولدِه صغاراً فهو فى سبيلِ اللهِ»، وإن كانَ خرجَ يسعى على أبوينِ شيخينِ كبيرينِ فهو فى سبيلِ اللهِ، وإن كانَ خرجَ يسعى على نفسِه يعُفّها فهو فى سبيلِ اللهِ، وفى المقابل كان ذمه ممن يلزم سؤال الناس وفى الحديث: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتى يوم القيامة وليس فى وجهه مزعة لحم». ويوضح الديب أنه حتى لوكان ترك العمل والتكسب من أجل التفرغ للعبادة فهو أيضا مرفوض وكلنا نعلم قصة الرجل الذى آثر أن يعتكف فى المسجد فكان أول سؤال النبى عمن ينفق عليه فلما علم أن أخوه يفعل ذلك كان رده حاسما وسريعا بأنه «الأخ المنفق» أفضل منه وكان هذا أيضا منهج الصحابة ولعمر بن الخطابِ رضى الله عنه قول شهير: »مكسبةٌ فيها دناءةٌ خيرٌ من سؤالِ الناسِ، وإنى لأرى الرجلَ فيُعجبُنى شكُله، فإذ سألتُ عنه فقيلَ لي: لا عملَ له، سقطَ من عيني. قالَ أبو حامدِ الغزالىِ رحمه الله: «السؤالُ حرامٌ فى الأصلِ، وإنما يُباحُ بضرورةٍ أو حاجةٍ مهمةٍ قريبةٍ من الضرورةِ». فعلى كل شخص يرغب فى العطاء أن يطبق ماكان يفعله النبى صلى الله عليه وسلم إذا جاءَه أحدُهم يسألُه مالاً، وكانَ قوياً على العملِ وجهَّه إلى العملِ وحثَّه عليه، وبيَّن له أن العملَ مهما كانَ محتقراً فى أعينِ الناسِ فهو أشرفُ للإنسانِ من التسولِ والمسألةِ. مجموعة كبيرة من النساء التقيناهم بشارع مراد بالجيزة يمشين حاملات فوق رؤسهن الكراتين اقتربت منهن ودار حوار سريع جدا عن الاستفادة من الكراتين: قالت إحداهن: أنا بابدل مع جارتى السمن الصناعى لأنى بافضل اطبخ بزيت أو حتة زبدة صفرا وكمان السمن اللى فى الكرتونة بيكون وحش أوى وأحيانا ماحدش بيرضى ياخده » تقول الأخري: » احنا مضطرين ناخد اللى فى الكرتونة .. وحش حلو ماهو مش بمزاجنا وأحسن من مافيش« والثالثة قالت: وهتعمل ايه ازازة زيت وكيلو مكرونة وشوية فاصوليا ده يادوب يأكل العيال يوم فطار وسحور فى رمضان » ولما سٍألت عن العمل: البعض رحب بالفكرة وقالت ياريت بس مايكونش شغل فى بيوت والبعض قال إن الفقير ملزوم من الغنى يديله ويصرف عليه لأن دى زكاة رمضان حق لهم فى حين تجاهلت باقى النسوة سؤالى بنظرة استنكار وقالت إحداهن وهى تشد الباقى بعيدا عنى يالا يالا نلحق اللى ورانا دى ناس فاضية »!!!! العمل بالبيوت مرفوض!! حرصنا على عرض قضيتنا على الدكتورة هبة عيسوى أستاذة الطب النفسى بجامعة عين شمس، والتى أرجعت كل ما ذكرناه إلى تراجع قيمة العمل لدى قطاع كبير من المحتاجين والفقراء، وقالت أنها لاتعفى وسائل الإعلام والدراما المصرية من المساهمة فى تحقير المهن البسيطة أو العمل اليدوى من خلال أعمال كثيرة أظهرت أبطالها وهم فى موضع خجل من تكسبهم أو تكسب آبائهم للقمة العيش بعمل بسيط، وأضافت أن الظاهرة أكثر اتضاحا فى مجال العمل بالمنازل حيث أصبحت النساء تعتبره وصمة عار وتفضل الواحدة منهن الجوع أو الوقوف للتسول بدلا من أن تذهب لبيت محترم وتساعد فى أعمال البيت بالرغم من أنها تحقق دخلا رائعا من وراء ذلك. وفى المقابل تؤكد دكتورة هبة أن هناك نماذج جديدة ومبشرة من شباب متعلم تعليما عاليا ولكنه لا يأنف العمل فى ورشة أو بنزينة أو حتى بيع مشروبات أو أطعمة أو خضار من أجل إكمال دراسته وتوفير مصاريفه، ولكن يجب ألا ندمر هؤلاء بالسخرية ممن يفعل مثلهم، مشيرة إلى أن فى هذا بعدا عن الفكر العالمى وعن الدين نفسه الذى جعل احتقار العمل من عدمه ليس على أساس علوه وإنما على أساس كونه شريفا أو لا. أما بالنسبة للعطاء فى شهر رمضان فقالت: ربما يكون فيه نوع من المبالغة والإهدار فى حين أن العطاء يجب أن يكون موزعا طوال العام، ومع الاهتمام بالوصول للمتعففين لأن هؤلاء لن يقفوا أبدا فى الشوارع مادين أيديهم.