تلك هى تحديدا إشكالية العلاقات المصرية الإثيوبية فى ظل مستجدات إنشاء سد النهضة وتداعياته المحتملة، فحق إثيوبيا فى التنمية يجب أن يراعى حق مصر فى الحياة. وهى علاقة ممكنة ويمكن الجمع بينهما فالمياه بعد سنوات من دراستها هى مسألة «إدارة» وليست مسألة »شح«، فلو أحسنا إدارة العلاقة بين الحق المستقر لإثيوبيا فى تنمية مواردها، وحق مصر فى الحياة ممثلا فى نهر النيل شريانها المائى الأوحد وكذلك السودان، فستنفرج العلاقة بين البلدان الثلاث ومن ثم باقى دول الحوض لآفاق رحبة ولمنظومة تعاون غير مسبوقة تحقق أهداف الجميع، وتحفظ للنهر بيئته وخواصه المائية والجغرافية، بوصفه وحدة واحدة، تتم تنميته لمصلحة كل الدول المتشاطئة على ضفافه، فهل الحل التوفيقى ممكن وكيف. عرض الدكتور بطرس بطرس غالى رؤيته عام 1983 لكيفية التعاون والمشاركة فى إدارة النهر بشكل عملى، عندما دعا وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل أعضاء تجمع «الاندوجو» الصداقة باللغة السواحيلية فى المراحل الأولى لعمر التعاون بين دول المجموعة، دعاهم لزيارة «منظمة حوض نهر الميكونج» بمقرها الرئيسى بالعاصمة التايلاندية بانجوك، ليتعرفوا على كيفية التشارك فى إدارة نهر لمصلحة دولة كافة، حيث نشأت على ضفافه منطقة نمو اقليمية جديدة قوام مشروعاتها نحو 21 مليار دولار آنذاك تخدم سكانا عددهم 150 مليون نسمة حيث اقيمت مشروعات فى أنحاء مختلفة. وأسهم بنك التنمية الأسيوى بحصة كبيرة فى تمويل هذه المشاريع والتى رآها تخدم أكثر من دولة والأهم تحقق الاستقرار والتنمية فى الاقليم الآسيوى الذى عاش سنوات من المواجهة أبان الحرب الباردة وحرب فيتنام والحروب التابعة فى كمبوديا ولاوس، وهكذا حول نهر الميكونج كعامل ربط ونماء منهج واسلوب الحياة بين تلك الأمم التى عانت ويلات الحروب لسنوات، لتصبح واحدة من المناطق الاقتصادية الأسرع نموا فى العالم، وضمن هذا السياق التنموى تحولت المياه لأحد جوانب علاقات دول النهر، وبات التعامل معها ضمن منظومة تعاون اقتصادى لا تنافس وتوترا سياسيا وهذا بالتحديد ما قصده الدكتور غالى بدعوة الوزراء الأفارقة لزيارة منظمة الميكونج، إننا كذلك فى حوض النيل قادرون على تحويل النهر لبيئة حاضنة لمشروع تنموى عملاق لخدمة شعوبنا. وقد طرحت فى مقالات سابقة بالأهرام وأكرر مفهوم النيل ممر التنمية الشرقى (حوض النيل الأزرق) الذى يجمع إثيوبيا والسودان ومصر، فى منظومة تعاون وتدار بشكل مؤسسى (هيئة أو لجنة اقليمية)، تتولى إدارة عملية تنموية شاملة تجمع البلدان الثلاث بشبكة ربط كهربائى، وخط سكك حديد، وطريق برى، وضمن منظومة إدارة متكاملة للمنشآت الهندسية (السدود) على النيل الأزرق من بينها سد النهضة وسدود السودان والسد العالى، على أساس السماح بتوليد الكهرباء فى إثيوبيا بمعدل تخزين مناسب لا يضر بباقى السدود على النهر والذى يملكه دوله الضفية الثلاث بصرف النظر عن منبعه أو مصبه. ومن الإدارة المشتركة للمورد المائى سيتم تنفيذ حزم مشروعات مكملة للمشروعات الأربعة الرئيسية التى أشرت اليها (ربط كهربائى، ربط سككى، ربط برى، إدارة مشتركة لعمل السدود فى البلدان الثلاثة) تخص مجالات أخرى مكملة، بعضها متعلق ببيئة النهر والصيد والرى والزراعة والتدريب والأنشطة السياحية والثقافية والاجتماعية. هذا النطاق الثلاثى للتعاون، سيفتح منفذا لإثيوبيا على المتوسط، وسيضع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كقاعدة انطلاق للصادرات الإثيوبية والسودانية من اللحوم والبن وباقى الحاصلات لأوروبا ومناطق العالم المختلفة. والمؤكد ووفقا لتوجهات التمويل الدولية سيتوافر التمويل من بنوك ومؤسسات ودول، سترى ما يحمله هذا المشروع من عوائد اقتصادية واستراتيجية وبوصفه معامل استقرار رئيسى فى شرق القارة، ومقدمة لانطلاقة كاملة لموارد النهر، من حوض النيل الأزرق بدوله الثلاث لحوض النيل فى منظومة تعاون كلية، وقد كان هذا بالفعل هدف مصر الأسمى من خلال مبادرة حوض النيل التى باتت بدون انضمام مصر والسودان قابعة فى محيط خدمة مصالح دول منابع النهر فقط ومما حولها لمجرد منظمة شبه اقليمية كمنظمة «حوض نهر كاجيرا» وحوض بحيرة فيكتوريا، ولم يحولها للمنظمة الاقليمية الجامحة التى تضم كل دول النيل من المنبع للمصب، وهو ما أدى لاحجام المانحين عن تقديم ما كان متوقعا لها من منح ودعم. والواقع أنه لم يفت الأوان بعد لتحقيق هذا الهدف الممكن وهو ليس حلما، حيث طبق النموذج وبنجاح فى أحواض مشابهة كما أوضحنا. وما نأمله وبعد توقيع عقد بدء الشركتين الفرنسيتين عملهما فى تحديد الآثار المترتبة على سد النهضة على مصر والسودان، أن يتم صياغة العلاقة المائية بين البلدان الثلاث وسدودها وفقا للمعايير التى تمكن كل دولة من الحفاظ على مصالحها وحصتها المائية ووفقا قدر الإمكان لما هو قائم حاليا، فى اتفاقية قانونية ملزمة، وكذلك تأسيس لجنة أو هيئة أو منظمة اقليمية لتحويل العلاقة بين البلدان الثلاثة لممر تنمية شرقى المياه أحد بنود التعاون وليست البعد الوحيد، أظن ان القادة فى البلدان الثلاثة أمام مفترق طرق تاريخى، وخيار أحدهم يحمل كل الخير والنماء والمستقبل، سيدعمه ويموله الشركاء، وسيتيح للنيل العظيم ودوله فرصة تاريخية للازدهار. مساعد وزير الخارجية (سابقا) لمزيد من مقالات د.محمد حجازى