فى «قرية الحميدات» على ضفاف نيل إسنا فى محافظة الأقصر، والتى ينتمى سكانها إلى جد واحد، سليل قبيلة الجعافرة. ما زالت النساء هناك يغنين فى المناسبات أغان لم يسمع بها أحد من قبل. ربما يزيد عددها عن 500 أغنية، نحاول هنا رصد بعضها، لكن من المهم فى البداية التأكيد على على أن هذا إبداع نسوى خالص، لم تتدخل فيه قرائح الرجال. فالنسوة هناك يضربن الدفوف بإيقاع معين، ويرتلن غنائهن الشجى كما انتقل إليهن عبر أجيال، والأعانى كلها مجهولة المؤلف. ولأن هذا الفن بوشك على الاندثار، وحفظته من النساء يرحلن عن حياتنا تباعا، نهيب بالجهات المسؤولة المسارعة بتسجيل وحفظ هذا الفن قبل ضياعه. وكانت بدايتى مع هذه الأغانى وأنا صغير، حيث لم اكن قادرا على استيعاب معانيها، وحيلها الفنية فى توصيل المعاني، وأذكر أننى سمعته يرددن هذه الجملة فى إحدى الأغاني: « أبعتر السمسم وألمه تاني»، أى أنثر حبات السمسم على الأرض ثم أقوم بجمعها مرة أخرى، فسخرت من هذا العناء الشديد، فمن من العقلاء يفعل هذا، فحبات السمسم دقيقة جدا، وجمعها من الأرض مرهق تماما، إلى أخبرتنى جدتى رحمها الله أن المقصود بالسمسم فى الأغنية هو « النقوط» الذى يقدمه النساء لبعضهن فى الأفراح، فكل من تقدمه لغيرها فى فرحها، سترده إليها فى أفراحها هي، وأدهشنى التفسير البسيط والعميق للأغنية الماكرة اللطيفة، ومن وقتها أسعى جاهدا لفهم كل الدلالات والايحاءات فى الغناء الشعبي. أبعتر السمسم والمه بيدى يا فرحتى لما عطانى سيدى أبعتر السمسم والمه تانى يا فرحتى لما عطانى البارى لارفع روايا من الحرير الغالى ( الروايا هى الراية ). والكلمات تعكس سعادة أم العريس بزوج ابنها، فهى التى كانت تنثر السمسم فى أفراح الآخرين، وآن لها أن تجمعه، ورفع «راية الحرير» هو من العادات القديمة، فقديما كانوا فى الصباحية يغمسون أطراف عدة رايات بيضاء فى الحنة، ثم يرفعون بعضها أعلى منزل العريس، ويوزعون بقيتها على مسجد القرية، وأضرحة الشيوخ (أبو جنب وإسماعيل وأبو كردي)، وربما كان هذا المقصود برفع أم العريس رايات الحرير، وقد إندثرت هذه العادة الآن. وتقول أغنية أخرى: دُقُّوا طُبوله تحت قصر العمده عَبُّوا البنادق وضربوا يا ولده دُقُّوا طبوله تحت قصر خاله عَبُّوا البنادق وضربوا قدامه دُقُّوا طبوله تحت قصر خليفه عَبُّوا البنادق وضربوا تشريفه والأغنية تكشف عادات ضرب الأعيرة النارية فى الهواء بأفراح الصعيد، و أم العريس هى التى تطلب هذا من الرجال حين تستخفها نشوة الفرح، وتصف الأولاد ب «الولده»، وضرب النار أمام قصر صاحب أكبر مكانة فى القرية، بما يمثله من سلطة وثراء، وتقول أم العريس أيضا: عند بيت العمده وضربوا البنادق فريحولى ولدى تعوا يا حبايب وهى هنا تدعو الناس ليفرحوا معها بزفاف ابنها. وفى الجزء الثانى من الأغنية تطلب أم العريس دق طبول الفرح وضرب النار أيضا أمام «قصر خاله» لمكانة الخال فى المجتمع، وفى المقطع الثالث تطلب دق الطبول أمام «قصر خليفة»، أى «الزناتى خليفة»، نتيجة تغلغل السيرة الهلالية فى الوجدان الشعبية. ثم تطلب أم العريس « تعبئة البنادق بالذخيرة» لعمل تشريفة لابنها، ونلاحظ فى هذه المقطوعة وسابقتها تكرار بعض الألفاظ، مع اختلاف الكلمة الأخيرة فى كل شطرة، ما يظهر قدرة القريحة الشعبية على استنساخ دلالات جديدة بتغيير لفظة واحدة، وربما نتج التكرار لشفاهيى هذا الفن، فهو يقال للنطق فقط وليس للكتابة ولا للقراءة، وهذا موجود فى الأغانى الحديثة فى دور الكورس الذى يقوم بالتكرار. والملاحظ فى هذه الأغانى إبراز «أم العريس» لمكانة ابنها الاجتماعية بإظهار ثراؤه المادى والمعنوي، فالعمدة هنا شريك فى الفرحة، والتشريفة لها دلالتها أيضا، مثلما يعكس قصر خاله الجاه الذى ينعم به العريس .