أيام قليلة تفصلنا عن بدء الاقتراع علي اختيار رئيس مصر القادم, بينما مازال معظم المصريين عاجزين عن حسم الاختيار أو المفاضلة بين مرشح وآخر علي أسس عقلانية واضحة!!. فما بين زحام لوحات و صور المرشحين التي تكدست علي كل شبر في أرض المحروسة, و سرادقات الدعاية الانتخابية الصاخبة التي يتردد في محيطها القريب و البعيد وعود وردية و تصريحات عنترية لدغدغة المشاعر, وبين الشائعات وحملات التشويه المتبادلة بين أنصار المرشحين في الشارع وعلي الفيسبوك وما بين الحوارات التليفزيونية و حقائب الزيت و السكر و أنابيب البوتاجاز التي بدأت تغزو المناطق الفقيرة والعشوائيات, يبدو الناخب المصري مشتتا و كأنه عاجز عن الاختيار أو حزم أمره, أو استنساخا لصورة مكررة من ناخبي يوميات نائب في الأرياف أو زقاق المدق!! و برغم أن الحوار و المناظرة و الدعاية للفوز بصوت الناخب أمور استقرت في الدول التي لا تأخذ بالنظم الشمولية أو تخضع للحكم الديكتاتوري, و تعتبر,كلها, جزءا لا يتجزأ من العملية الديمقراطية وأدوات لتحقيق مبدأ الشفافية و تدعيم حق المواطن في الاختيار, إلا أنه من المؤسف أن نتائج ما يشهده الشارع المصري حتي اللحظة تبدو محبطة ومخيبة للآمال. فالأمر يبدو و كأن كل هذه الآليات قد تحولت لأدوات لزيادة مساحة الضبابية و التعصب والفرقة ليصبح الناخب المصري حائرا بين مربعي التقديس لمرشح أو عدد من المرشحين أو لتيار أو آخر في مقابل شيطنة كل الآخرين, و العكس صحيح. و في خضم كل مظاهر الدعاية الانتخابية و دعم مرشح ضد المنافسين الآخرين يطالعنا عدد من الظواهر التي تستحق التوقف أمامها و مناقشتها بصراحة. فبنظرة عابرة ندرك مدي التشابه في برامج الناخبين و كم المناورة في التصريحات حول القضايا الخلافية التي ستحدد مستقبل مصر في السنوات المقبلة, و عدم ظهور آلية واضحة المعالم أو خطوات عملية لتحقيق الوعود التي تحفل بها برامج المرشحين. والأخطر, علي الأقل بالنسبة لنا كعاملين في الشأن الثقافي, الغياب الواضح للبعد الثقافي في هذه البرامج, سواء من حيث التكامل بين كافة المؤسسات المجتمعية لاستعادة خزانة الوعي المصري الأصيل, والتخلص من أحادية الفكر و الوصاية عليه, وتبني مشروع ثقافي مصري حقيقي يلتف حوله كل المصريين و يعيد لمصر مكانتها الثقافية إقليميا و دوليا,أو من حيث وضع تعريفات محددة للعبارات المطاطية والكلمات المرسلة التي يسهل من خلالها الإطاحة بالموروث الثقافي المصري. ومن الغريب أن معظم الجدل المثار الآن لم يتطرق,اللهم إلا في القليل النادر جدا, لغياب آليات تنفيذ البرامج الانتخابية, ولم يتطرق نهائيا لتعريف الكلمات الرنانة التي يطلقها المرشحون أو دلالة ممارسات بعض المرشحين التي تعكس منظورا سلبيا للناخب المصري. وفي ظني أن هذا الغياب الواضح للخطط الواضحة المعالم وعمومية اللفظ يضعنا أمام معضلة حقيقية بين طرفي المعادلة الانتخابية,المرشح و الناخب. فإما أن المرشح المحترم يري أن ناخبه مغيب العقل أو أنه مستعد لقبول استنساخ نظم غريبة أو قديمة بغض النظر عن متغيرات الظرف والزمان, أو يمكن شراء صوته بمقابل مادي أو إرهابه ماديا ومعنويا( أو أنه هان وضاعت كرامته وذهب عقله لدرجة شراء صوته وكرسي رئاسة مصر بكيس سكر وزجاجة زيت!!),و إما أن الناخب نفسه نتيجة لفترات القهر وسيادة الديكتاتورية بات مغيبا, أحادي الفكر, وفاقدا للقدرة علي الاختيار و تحديد أولوياته. ولأن الصورة لا يمكن أن نختصرها في أي من الصور السابقة, و لأن مستقبل مصر لا يمكن اختزاله في مشهد أشبه بزفة الانتخابات في يوميات نائب أرياف الحكيم أو زقاق مدق محفوظ أو أرض نفاق السباعي, فإننا اليوم و قبل الوقوف أمام صندوق الانتخابات الأربعاء المقبل نضع القضية بكافة أبعادها علي مائدة البحث..نطرحها أمام المرشحين المحترمين والأهم أمام الناخب الذي سيحدد صوته مسار تاريخ الجمهورية المصرية الثانية.. نناقش من خلال سطور تحقيقي الزميل حسن إمام و الزميلة فاطمة دياب ثقافة الاختيار والانتخاب ومفهوم أحادية الفكر ولعلاقة بين المرشح و الناخب, فربما يصل صوتنا وصوت مفكرينا لأبناء مصر ليحسموا أمرهم, فهم أصاحب الاختيار الذي سيحدد مستقبل ومسار أقدم أمة عرفها التاريخ.