يعد التهديد الأمنى الذى يشكله المصريون العائدون من ليبيا أحد عواقب تطور نمط الإرهاب فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يعد نتاجاً مباشراً لصراع سياسى ونزاع عسكرى استمر فى ليبيا لفترة طويلة. وبالتالى يجب ألا تعتمد أساليب مواجهته على أسلوب واحد دون غيره. فهناك عدد من الإجراءات الأمنية والسياسية والتشريعية التى من الممكن اتخاذها للحد من خطورة التهديدات الأمنية المتعلقة بالمصريين العائدين من ليبيا. فقد مرت خمس سنوات منذ اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير فى ليبيا فى عام 2011 والتى أطاحت بحكم معمر القذافى الذى استمر لفترة فاقت الأربعين عاما. وبالرغم من حجم الانجاز التاريخى الذى حققه الشعب الليبى بعد أن تمكن من إنهاء حكم سلطوي، والذى كان كارثياً بكل المقاييس، تقبع ليبيا تحت وطأة حالة من غياب الاستقرار السياسى والأمني، وهى الحالة التى تفاقمت كثيراً وساءت بشكل ملحوظ مع دخول ليبيا فى مرحلة من الصراع السياسى والعسكرى على السلطة والشرعية والنفوذ بين كيانات سياسية وجماعات مسلحة. وفى إطار هذا الصراع المتزايد، باتت الأوضاع الأمنية فى ليبيا تمثل تهديداً مباشراً للشعب الليبى ولدول جوار ليبيا، وهو التهديد الذى بدأ يمتد لسائر دول البحر المتوسط. وقد أدى تنامى هذه التهديدات إلى تزايد الضغط الدولى لحث الفرقاء الليبيين لتوقيع اتفاق سياسى يعمل على إنهاء حالة النزاع العسكرى والانقسام السياسي. ولكن الاتفاق السياسى الذى تم توقيعه فى مدينة الصخيرات بالمغرب فى ديسمبر الماضى لم يترجم بعد إلى توافق فعلى على أرض الواقع. ومن ثم، تظل ليبيا مصدراً للتهديدات الأمنية والسياسية التى تطال دول جوارها بشكل خاص. أخطار متنوعة وهنا، تواجه مصر عددا من التحديات الأمنية كنتاج للأوضاع غير المستقرة التى تمر بها ليبيا كون مصر إحدى الدول التى لديها شريط حدودى طويل مع ليبيا من ناحية، ومجموعة من المصالح السياسية والاقتصادية من ناحية أخرى. وقد عانت مصر خلال الخمس سنوات الأخيرة من انهيار الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية فى ليبيا.. فالانقسامات السياسية داخل ليبيا أدت لتراجع دور مصر فى ليبيا بعد أن أصرت مصر على عدم التعامل مع الكيانات غير المعترف بها دولياً داخل ليبيا، وهو ما كان من شأنه غياب التواجد المصرى عن غرب ليبيا. كما أن السجال العسكرى وعدم انضباط البنية الأمنية فى ليبيا كان له العديد من الآثار السلبية على مصر سواء من خلال تعرض أعداد من المصريين المقيمين فى ليبيا لأخطار متنوعة وصلت للقتل فى بعض الأحيان أو من خلال تنامى التهديدات الأمنية كنتاج لانتشار التنظيمات الإرهابية والتشكيلات الجهادية المسلحة داخل ليبيا. ومما لا شك فيه، كان لتراجع مؤشرات الاقتصاد الليبى من جراء الصراع السياسى والسجال العسكرى أثر سلبى على مصر حيث أدى لتراجع ملحوظ فى أعداد العمالة المصرية المتواجدة بليبيا، وهو ما كان من شأنه التأثير على نسبة البطالة فى مصر وعلى حجم تحويلات المصريين من الخارج. وقد بدأ يظهر مؤخراً أحد الأبعاد السلبية الجديدة التى سوف تعانى منها مصر فى ظل استمرار الأزمة السياسية فى ليبيا، وهى الإشكالية التى تتعلق بالمصريين العائدين من ليبيا. ونحن هنا لا نتحدث عن العمالة المصرية العائدة من ليبيا كنتيجة للأوضاع الأمنية غير المستقرة أو لتراجع فرص العمل فى ظل الهبوط المستمر فى أداء الاقتصاد الليبى أو فى أسعار النفط. فبالرغم من كون هذه الظاهرة أحد المثالب التى سوف تضطر مصر للتعامل معها كأحد نتائج الواقع السياسى غير المستقر فى ليبيا ولما لها من آثار سلبية على جودة المعيشة لعدد غير قليل من المواطنين الذين كانت فرص العمل بليبيا تشكل لهم مصدراً رئيسياً للدخل، إلا أننا نسعى لإلقاء الضوء على المصريين العائدين من ليبيا فى سياق مختلف نسبيا، وهو ذلك الذى يتعلق بالمصريين الذين قاموا خلال تواجدهم بليبيا بالانضمام لتنظيمات متطرفة أو لجماعات إرهابية. البنية الإرهابية تشكل هذه الفئة تهديدا لأمن مصر ولسلامة مواطنيها فى ظل تنامى ظاهرة الإرهاب العابر للحدود واعتماد تنظيم داعش فى الفترة الأخيرة على تجنيد مقاتلين أجانب فى كل من العراق وسوريا وليبيا ثم قيام هؤلاء المقاتلين بعمليات إرهابية عند عودتهم لبلدانهم، وهو النمط الذى تكرر فى عدد من التفجيرات الإرهابية التى وقعت فى كل من أوروبا والشرق الأوسط فى الآونة الأخيرة. وبالتالي، يتوجب علينا قبل الخوض فى طبيعة وحجم التهديد الذى قد يشكله العائدون من ليبيا على أمن مصر أن نتعرض للبنية الأساسية للتنظيمات الإرهابية فى ليبيا، وحجم المقاتلين الأجانب المنضمين لهذه التنظيمات، وعدد المصريين بين هؤلاء الأجانب. وقد شهدت الفترة الأخيرة تزايداً ملحوظاً فى نشاط التنظيمات الإرهابية داخل ليبيا, وهو ما يعد وضعا طبيعيا فى ظل استمرار الانقسام السياسى وغياب السلطة المركزية القادرة على الربط بين السيادة السياسية والمهنية العسكرية. فبالرغم من وجود سلطة معترف بها دوليا ممثلة فى مجلس النواب خلال العامين الأخيرين، ووجود ذراعا عسكرية لهذه السلطة ممثلة فى الجيش الوطنى الليبي، ودخول فاعل جديد للمشهد السياسى فى ليبيا يحظى بشرعية دولية هو الآخر ممثلا فى المجلس الرئاسي، إلا أن كل هذه الأطراف لم تنجح حتى الآن فى التنسيق بين بعضها البعض بشكل فاعل من ناحية أو فى بسط نفوذها على الرقعة الجغرافية الشاسعة التى تتمتع بها ليبيا من ناحية أخرى. غابة جهادية وبالتالي، استمر نفوذ التنظيمات الإرهابية داخل ليبيا فى التصاعد، وتمكن تنظيم الدولة الإسلامية من فرض سيطرته على مدينة سرت. كما بدأ يسعى للسيطرة على مدينة أجدابيا الغنية بالنفط. وبالإضافة لسرت، تتواجد بعض التنظيمات الجهادية المتطرفة فى أجزاء من شرق ليبيا كمجلس شورى ثوار بنغازي، ومجلس شورى مجاهدين درنة، وتنظيم أنصار الشريعة. ويذهب البعض لتحليل التواجد الجهادى فى شرق ليبيا كمصدر أكثر خطورة لتهديد الأمن القومى المصرى كون الشرق الليبى هو المنطقة المتاخمة للحدود المصرية. ولكن غياب السلطة المركزية والأداء الأمنى الفاعل داخل ليبيا يجعل التهديد الأمنى القادم من أجزاء ليبيا المختلفة متساوياً فى خطورته على الأمن القومى المصري. وبالطبع توجد عدد من الصعوبات المتعلقة بالتوصل لأرقام دقيقة خاصة بعدد المقاتلين الأجانب فى ليبيا والتنظيمات التى ينتمون إليها، وذلك نظراً لعدم تواجد مناخ يسمح بالبحث الميدانى داخل ليبيا. ولذا، فأغلب الأرقام المتداولة هى أرقام من تقارير استخباراتية تم تسريبها إلى الإعلام أو من تصريحات لعدد من المسئولين الليبيين المعنيين بالتعامل مع الظاهرة، وهو ما أدى لنوعاً من التباين بين الأرقام والمعلومات المتاحة. فقد جاء على لسان عبد الله الثنى أن هناك ما يقرب من خمسة آلاف مقاتل أجنبى يقاتلون ضمن صفوف التشكيلات المسلحة داخل ليبيا، وأن 70% من مقاتلى تنظيم داعش ليبيا من الأجانب. واتفقت أغلب التقارير الخاصة بالمقاتلين الأجانب فى ليبيا أن الغالبية العظمى من المقاتلين يحملون الجنسية التونسية، ولكن هناك عدد منهم من السودان ومصر وموريتانيا ومالى والنيجر. وأشار تقرير أصدره المركز الليبى لدراسات الإرهاب فى يناير 2016 أن هناك ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل أجنبى داخل ليبيا (وهو رقم ربما قد يكون يحمل بعض المبالغة خاصة فى ظل الصعوبات التى تواجه عملية الإحصاء) بينهم 3200 مقاتل من تونس و699 من مالى و455 من السودان و111 من مصر. وفى ظل التباين الواضح فى الأرقام، تتفق غالبية التقارير على وجود ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مقاتل أجنبى ضمن صفوف تنظيم داعش حيث يشكلون ما يقترب من ثلاثة أرباع أعضاء التنظيم فى ليبيا، وينتمى أغلبهم لتونس والسودان ومصر، ويدخلون ليبيا عن طريق عبور الحدود المصرية الليبية أو الحدود التونسية الليبية أو الحدود النيجرية الليبية. إجراءات المواجهة ومن ثم، بغض النظر عن دقة الأرقام، نحن أمام واقع لا يمكن انكاره، وهو وجود عدد من المواطنين المصريين ضمن صفوف تنظيمات إرهابية داخل ليبيا قد يعودون لمصر فى أى وقت، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول ما يمكن فعله حيال التهديدات الأمنية التى قد يشكلها بعض المصريين العائدين من ليبيا على الأمن القومى المصري. ووتمثل الإجابة، من وجهة نظري، فى خمس محاور رئيسية، على النحو التالي: أولاً: يجب أن يكون هناك تفرقة واضحة بين العمالة المصرية العائدة من ليبيا وبين العائدين من ليبيا المشتبه فى انتمائهم لتشكيلات مسلحة أو تنظيمات إرهابية. فمن غير الممكن تعميم الاشتباه والتمادى فى فرض إجراءات أمنية دون إطار واضح من المعايير يضمن عدم تعرض مواطنين عائدين من ليبيا لأية انتهاكات لحقوقهم الدستورية، خاصة أن هؤلاء المواطنين لم يرتكبوا أية أخطاء سوى البحث عن عمل وعن مصدر للدخل. ثانياً: بلورة تنسيق مستمر بين الأجهزة الأمنية المصرية وبين أجهزة الأمن فى ليبيا فيما يتعلق بنشاط المصريين الموجودين داخل ليبيا، وهو ما يتطلب التعامل مع الجهات الأمنية الليبية المختلفة, وليس فقط تلك التى تتبع مجلس النواب أو الأذرع العسكرية التى تمثله، فأولوية الأمن القومى تجب أية خلافات سياسية. ثالثاُ: من المهم أن تمارس مصر دوراً فاعلاً فى تمكين المجلس الرئاسى وحكومة الوحدة المنبثقان عن اتفاق الصخيرات. فمن غير الممكن مواجهة التهديدات الأمنية القادمة من ليبيا من طرف واحد دون الآخر, فوصول ليبيا لمرحلة من التوافق السياسى ينتج عنها سلطة مركزية ذات سيادة فعلية يعد أحد أهم الخطوات فى سياق مواجهة التهديدات الأمنية القادمة من ليبيا. رابعاً: اتخاذ حزمة من الإجراءات القانونية التى تساعد الجهات الأمنية على القيام بدورها حيال العائدين من دول تعانى من تهديدات إرهابية كليبيا وسوريا والعراق دون الإخلال بالحقوق الدستورية للمواطنين. وفى هذا السياق، من الممكن أن يقوم مجلس النواب فى مصر بالعمل على إصدار تشريع للتعامل مع العائدين من هذه الدول يكون وافياً وغير فضفاض فى بنوده بحيث لا تتحول محاولات الحفاظ على الأمن القومى المصرى إلى ملاحقات أمنية أو انتهاكات لحقوق الإنسان. خامساً: فى سياق دعم مصر لتفعيل الاتفاق السياسى الذى تم توقيعه فى الصخيرات فى ديسمبر الماضي, يجب أن تبدأ مصر فى التفكير فى عودة بعثتها الدبلوماسية إلى ليبيا وإعادة فتح السفارة المصرية بطرابلس، وهو إجراء يساعد على رعاية المصريين المقيمين بليبيا ويسمح للدولة المصرية بالإطلاع عن قرب على أية أنشطة إرهابية ينخرط بها المصريون فى ليبيا، ولكنه فى ذات الوقت إجراء يحتاج اتخاذه البحث عن التوقيت المناسب سياسياً وأمنياً.