للوهلة الأولى...لا يوجد ما يربط بين مؤتمر أخير بجامعة الدول العربية، ودار الأوبرا الخديوية، ومتاتيا المقهى المصرى الشهير الذى كان يحتل موقعا فريدا فى وسط البلد. فجامعة الدول العربية كانت فى البدء فكرة ورجاء لمفكرى العرب كما أشار انطونى إيدن وزير خارجية بريطانيا فى بداية الأربعينيات، وكانت دار الأوبرا الخديوية واحدة من أحلام الخديو إسماعيل السبعة لجعل القاهرة التاريخية العتيقة قطعة من أوروبا تنافس باريس فى جمالها وثقافتها. أما مقهى متاتيا بموقعه الفريد فى وسط البلد فكان تأكيدا على درجة التحضر التى عرفها بر مصر المحروسة فى نهاية القرن التاسع عشر من معمار وتخطيط، وكان شاهدا على أفكار ومناقشات الأستاذ جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده وعبد الله النديم وسعد زغلول. ظل كل منهم على عهده حتى جاءت السبعينيات فاحترقت الأوبرا، واختفت متاتيا فى التسعينيات وكان المبرر أنها اصبحت ملاذا لعدد من الخارجين على القانون ومرتعا للتعدى والجرائم. كان التفكير السائد وقتها أنه لا شىء يجدى مع عمارة متاتيا سوى هدمها خاصة بعد زلزال 1992، وفقدان مقهى متاتيا بالفعل ملامحه المميزة منذ بداية الستينيات. تبنت وزارة الثقافة منطق الاستفادة بالمساحة لإعادة دار الأوبرا الخديوية إلى الحياة، فهى تحفة مصر التى أتى عليها حريق فى 28 أكتوبر عام 1971 واحترقت بالكامل خلال ساعتين فقط، لتظل المفارقة فى وجود 18 ساعة تفصل بين الحريق وبدء موسم عالمى كبير احتفالا بإنشائها. ولكن لم تعد دار الأوبرا الخديوية للحياة، ولم يبق مقهى متاتيا . صحيح أن د. ثروت عكاشة وزير الثقافة كان قد وضع حجر أساس إنشاء دار أوبرا جديدة لا تقل عنها فخامة فى يوليو 1962 بحديقة الحرية، وأن الوزارة تقدمت بطلب إلى منظمة اليونسكو- كما أكد حسن عبدون أشهر مدير لدار الأوبرا- لترشيح مهندس لتصميمها، وهو الألمانى بورنمان الذى أراد أن يأتى تصميم دار الأوبرا المصرية الجديدة مشابها لمبنى أوبرا برلين. إلا أن كل هذا ظل فكرة أما متاتيا فأصبح مجرد قصة فى كتب التاريخ. ربما ذكرنى بهذه القصص كلها مؤتمر «التراث الأثرى فى العالم العربى» الأخير الذى بدأ يوم الاثنين الماضى واستمر ليومين باستضافة ورعاية جامعة الدول العربية نفس المكان الذى طالب به المثقفون كدليل على استقلال العرب، والذى أراد من خلال جهد ثقافى بالتعاون مع كلية الآثار بجامعة الفيوم أن يناقش ما حدث ويحدث لكل آثارنا وذكرياتنا فى العالم العربى وألا يتوقف فقط عند حدود أوبرا أو مقهى أو حتى متحف كبير. عادت الجامعة العربية تؤكد وجودها الثقافى الذى لا ينفصل عن السياسة حين تحدث د. نبيل العربى الأمين العام لجامعة الدول العربية عن لجنة دولية مهتمة بالحفاظ على التاريخ الإنسانى تضم اليونسكو والاسيسكو والاليكسو والجامعة العربية أصدرت بالفعل عدة توصيات. فالمشكلة من وجهة نظره أن تراث العالم العربى يقف عند حدود اتفاقيات لا تفعل، فالاتفاقيات الدولية الخاصة بإعادة آثار الوطن العربى المنهوبة من العراقوسوريا لابد أن تنفذ بنوع من الإجبار من أجل نظام دولى محكم لاستعادة الآثار المهربة. أما احترام الإسلام للموروث الثقافى فهو ما أكده عباس شومان وكيل الأزهر الشريف، ولولا رؤيتنا لأهرامات الجيزة ومعابد الكرنك وأبو سمبل لما تعرفنا على عمق حضارتنا، وما اصاب الآثار على يدى طالبان وداعش لم يحقق كسبا لديننا، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا أكثر ادراكا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين لم يتعرضوا لأى أثر ولم يمنعوا زيارته. كما أن بعضاً من هؤلاء المتشددين من تجار الآثار. والأزهر الشريف يرى أنه يجب الحفاظ على الآثار سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية. ويضيف د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف أن كل ما يأخذ الإنسانية إلى البناء والتعمير يأخذنا إلى صحيح الإسلام والأديان، وكل ما يجنح بنا فى اتجاه الهدم والتدمير والسرقة يأخذنا إلى ما يناقض الإنسانية السوية. فالإسلام يطالب كل جيل بأن يقدم إضافة تحسب له فى الفنون والعمارة والعلوم. ولهذا فالمهم كما يقول د. خالد العنانى وزير الآثار هو العودة إلى اقتراح الوزارة لاتفاقية تعاون لمكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار تحت مظلة جامعة الدول العربية. ويقترح د. صلاح الجعفراوى من منظمة الاسيسكو تشكيل فريق دولى لحماية التراث فى أثناء الصراعات المسلحة وإضافة مهمة الحفاظ على التراث كمهمة إضافية لقوات حفظ السلام الدولية. وتطالب مكتبة الاسكندرية على لسان مديرها د. اسماعيل سراج الدين بعودة ما خرج من آثار دون تصريح من الدول حيث إن حقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، ويضيف البرلمان العربى ضرورة التحرك المشترك لإعداد قانون عربى موحد لصيانة البنية الحضارية مناشدا الأممالمتحدة ممثلة فى اليونسكو تفعيل قرار مجلس الأمن بتجريم الاعتداء على التراث الإنسانى. ليبيا..العراق..سوريا: ليست هذه هى كل الحكاية، فالواقع الأثرى الليبى شديد الصعوبة كما يقول د. فضل على القورينى رئيس مصلحة الآثار الأسبق فى ليبيا حيث تشكل العوائق الطبيعية من زحف للبحر على المدن الأثرية فى شرق طبرق وغرب بنغازى عاملا مؤثرا على الآثار المكتشفة وخاصة الفسيفساء والفريسك، كما أن غياب الوعى جعل ليبيا تواجه مشكلة ثقافية كبيرة حين نقلت كنوزها إلى متاحف العالم، حتى أنه من المعروف لدى عموم الأثريين العرب، أن أعمدة البازليكا وشارع الأعمدة فى مدينة لبدة قد بنى عليها قصر فرساى الشهير بفرنسا. وبعد الربيع العربى وصلت المنظمات التكفيرية إلى صبراته وبنغازى، فقامت بتشويه الرسوم الصخرية والكتابة عليها، ولم تكتف بذلك فدمرت مقابر بنى الخطاب السبعة الإسلامية بالتفجير الكامل فى فزان ونهبت الكنز الذهبى الأثرى من المصرف التجارى فى بنغازى. وفى سوريا والكلمة لأسبر صابرين رئيس منظمة تراث لأجل السلام- أدى التدمير الكبير إلى خروج العديد من الآثار، إلا أنه مع كل هذا يجب أن تأتى الحلول من داخل سوريا، وأن يرتفع الوعى لدى السوريين بأهمية تراثهم، وحماية المتاحف والمواقع الأثرية والتحضير لإعادة الإعمار لما بعد الحرب. وتتحدث د. خلود السالم من جامعة الكوفة بالعراق عن أثر الحروب والتطرف المذهبى على تراث العراق الذى طاله الاهمال والتخريب لكثير من المواقع الأثرية كانت مسجلة على قائمة التراث العالمى. أما إقليم دارفور بالسودان فكما تشير د. أسماء إسماعيل حيث تضم مدينة الفاشر تسعين حيا مازال محتفظا بكيانه القديم وخلطة أهله من العرب والزنج والبربر أيضا. وتضم الفاشر مجموعة كبيرة من الآثار منها قصر السلطان على دينار الذى يعد من أهم المعالم الحضارية فى منطقة وسط وشرق إفريقيا، ويضم مجلس قهوة السلطان وبيت زوجاته، وهو الآن متحف السلطان. كما توجد أيضا قبة السلطان زكريا والد السلطان على دينار، وبقايا منزل مريم تاجة أخت السلطان. آثار وآثار يضمها وطننا العربى، وتضج هى بالعابثين من أهله والقادمين بقصد التدمير من غير أهله. فعالمنا العربى كما قال د. خالد حمزة عميد جامعة الفيوم ود. عاطف منصور عميد كلية الآثار بالفيوم يتعرض لمخطط كبير لهدم حضارته، والدليل ما حدث فى سوريا وترك متاحف العر اق مفتوحة لكل من هب ودب، وتهويد فلسطين لطمس الهوية العربية التى تؤكدها الآثار الإسلامية والمسيحية. حقا ربما يذكرنى هذا المؤتمر بما هو أكثر من مقهى أو دار للأوبرا أو قصر...والمطلوب هو التنبه والاستيقاظ حتى لا يأتى صباح لا نجد فيه تاريخنا أو آثارنا، فلا نترك لأولادنا إلا ميراثا ثقيلا لا يستطيعون معه سبيلا.