ماذا حدث بعد أن أصدر السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي كتابه المعنون المكارثية: الحرب من أجل أمريكا (1952) والذي اتهم فيه الرئيس الأمريكي هاري ترومان بأنه وأعضاء حزبه متحالفون مع الشيوعيين, كما اتهم فيه الليبراليين بأنهم غوغائيون. كانت البرجماتية هي المذهب الفلسفي الحاكم للسياسة الأمريكية. والبرجماتية معناها أن صدق الفكرة مرهون بنتيجتها, فإذا جاءت النتيجة ايجابية كانت الفكرة صائبة, واذا جاءت بعكس ذلك كانت كاذبة. والسؤال بعد ذلك:هل تأثرت البرجماتية بإرهاب المكارثية؟ قيل في الجواب عن هذا السؤال إن البرجماتية قد أصابها الأفول بحكم الارهاب الفكري الكامن في المكارثية خشية أن يقال عن البرجماتية إنها متأثرة بفكر الشيوعيين الأمريكيين الموالين للتنظيم الشيوعي الأممي. ولا أدل علي ذلك من اتجاه فلاسفة أمريكا إلي الفلسفة التحليلية التي لا تنشغل بهموم البشر إنما تنشغل بمسائل فنية فلسفية مثل تحليل اللغة وتحليل قواعد التفكير المنطقي, وهذه مسائل خالية من أي نكهة سياسية أو ايديولوجية. ولا أدل علي ذلك من أن ويلارد فان كواين الملقب بفيلسوف أمريكا (1908 2000) كان مهموما بالترويج لتيار فلسفي اسمه التحليل اللغوي وكان يعني به تحليل الألفاظ اللغوية التي تشكل رؤيتنا عن العالم من أجل توضيحها. ومن هنا توقف كواين عن التساؤل عن أصل الكون أو أصل الحياة لأنه ليس في امكان الانسان الجواب عن هذا أو ذاك. واتجه بعد ذلك إلي الكشف عن القضايا الفلسفية الزائفة, ومن بينها ثنائية العقل والجسم. ففي رأيه أن هذه الثنائية وهمية إذ هي مردودة إلي الانسان البدائي الذي عثر عليها في الأحلام التي ترد إلي الانسان في حالة النوم, إذ إن من شأن هذه الأحلام أن توهمك بأن لك عقلا مستقلا عن الجسم في حين أن العقل ليس إلا نشاطا من أنشطة الجسم. وتأسيسا علي ذلك كان كواين يحرض الفلاسفة علي عدم الانشغال بالقضايا السياسية, وكان يحثهم علي ضرورة فرض الرقابة الأخلاقية. وعندما قررت جامعة كمبردج بانجلترا الاحتفاء بالفيلسوف الفرنسي من أصل جزائري جاك دريدا (1930 2004) اعترض كواين علي هذا الاحتفاء وحاول منعه بدعوي أن دريدا ضد الحياد الفلسفي الذي لا ينشغل بقضايا البشر. وكان دريدا دائم القول بأن العالم يواجه كارثة, ومن ثم كان مهموما بتناول القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وكان يعني بالكارثة اختفاء الكتلتين الشيوعية والرأسمالية, وبزوغ نظام عالمي جديد عاجز عن ايجاد حلول للحروب الاقتصادية, وللظلم الناشئ منها. وقد تناول دريدا هذه الهموم في كتابه المعنون الطريق المضاد: سياحة مع جاك دريدا (2004). وأيا كان الأمر فقد شكلت أفكار كواين الفلسفية تيارا مؤثرا ليس فقط علي الفلسفة الأمريكية بل أيضا علي الفلسفة الأوروبية, إذ كان هو والفيلسوف الانجليزي الفريد إير المهيمنين علي المناخ الفلسفي في كل من أمريكا وانجلترا في الربع الثالث من القرن العشرين. وفي مارس من عام 1978 عقدت مؤتمرا فلسفيا دوليا تحت عنوان الفلسفة والحضارة ودعوت إليه كلا من كواين وإير. رفض كواين ووافق إير. وفي الجلسة الأولي ألقي فيلسوفان آسيويان بحثيهما وكان أحدهما باكستانيا والآخر يابانيا واذا بالفريد إير يطلب التعقيب وهو في حالة عصبية, إذ قال: لقد دعاني البروفسير وهبة للمشاركة في مؤتمر فلسفي فاذا أنا أمام مؤتمر ديني. ولهذا يبدو أن ثمة خطأ في توجيه الدعوة. وقلت معقبا: أظن أن السير الفريد إير قد قبل الدعوة وهو يعلم أن موضوع المؤتمر مرفوض منه فلسفيا بحكم أنه من دعاة التحليل اللغوي الذي يحصر الفلسفة في التحليل المنطقي للألفاظ وفي انكار ألفاظ مثل لفظ الحضارة بدعوي أن ليس لها مقابل في المعطيات الحسية. ورد إير قائلا: نعم, قبلت المشاركة ولكني قبلتها لا كفيلسوف ولكن كإنسان تعنيه أمور الثقافة والحضارة. ومع ذلك فقد كان موقف إير أكثر تسامحا من كواين الذي رفض الدعوة قائلا: إن الفلسفة ليست إلا المنطق والتحليل المنطقي. ويبقي السؤال مثارا:هل تيار التحليل اللغوي نتيجة حتمية من إرهاب المكارثية؟ إذا أردت أن تستعين في الجواب عن هذا السؤال بالحالة المصرية القائمة فما تريده مشروع. فالرأي عندي أن التشدد الكامن في الفكر الإخواني والسلفي و الجهادي هو الذي دفع المثقفين المصريين إلي رفض الاستعانة بلفظ العلمانية خوفا من اتهامهم بالزندقة. المزيد من مقالات مراد وهبة