رجل سطر اسمه بحروف من دماء بين قوائم "مجرمي الحرب"، بعدما جرد نفسه من كل ما منحته الفطرة من إنسانية ليدخل المعترك السياسي من أشرس أبوابه، فيصبح رجلا لا تعرف الرحمة أو الشفقة طريقا لقلبة .. أنه "سفاح البوسنة" رادوفان كاراديتش، صاحب التاريخ الملطخ بدماء الآلاف من مسلمي البوسنة، والمسئول الأول عن مذبحة "سربرنيتشا" الشهيرة، التى وصفت بأسوأ جريمة علي الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.. والذي ظل بعيدا عن يد العدالة أكثر من 20 عاما، وها هو أخيرا ينال عقابة حيث حكمت عليه المحكمة الجنائية الدولية بالسجن 40 عاما. فعقب انتهاء حرب البوسنة عام 1995 وجهت المحكمة الدولية لجرائم الحرب فى يوغسلافيا الإتهامات لكاراديتش بإرتكابه جرائم حرب ضد الإنسانية وتورطه فى التطهير العرقي، ولكنه كان قد اختفى تماما آنذاك مما جعل حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية تعرض مبلغ 5 ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات تؤدى للقبض عليه، هو ومعاونه راتكو ملاديتش. وقد ظل طليقا نحو 13 عاما إلى أن ألقى القبض عليه فى صربيا عام 2008، وهو على متن حافلة فى العاصمة حيث كان يحمل أوراقا وبطاقة مزيفة تحت اسم دراجان بابيتش، وقد تبين أنه كان يعمل فى عيادة خاصة متخفيا فى شعر أبيض ولحية بيضاء كثيفة وطويلة مدعيا أنه ليس صربيا ويعمل فى مجال الطب البديل معتمدا على دراسته. وبعد القبض عليه تم نقله لمركز الاعتقال التابع للمحكمة الدولية لجرائم الحرب حتى أول مثول له أمام المحكمة فى لاهاى يوم 16 أكتوبر 2012، حيث وجهت له المحكمة 14 اتهاما بجرائم ضد الإنسانية. أقارب ضحايا مذبحة سربرنيتشا وخلال محاكمته على مدار الأعوام الماضية قام بالكثير من المراوغات إلى جانب وجود الكثير من الثغرات، والتى برأته من عدة تهم حتى حكم عليه مؤخرا بالسجن 40 عاما، ولولا السنوات الطويلة التى مرت وضاعت معها الحقائق، ولو أن هناك عدالة حقيقية لكان مصيره هو "حبل المشنقة". وقد ولد كاراديتش عام 1945 فى مدينة بينينييكا بالجبل الأسود، التى كانت إحدى دول الإتحاد اليوغسلافى السابق، وكان والده ينتمى الى حزب "شيتنكس" القومى الصربي، الذى حارب النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها انضم للجماعات الصربية، التى كانت تهاجم النظام الشيوعى والرئيس اليوغسلافى آنذاك جوزيف تيتو، فكان مصيره السجن، الذى دخله بينما لم يكن كاراديتش قد تجاوز عامه الأول، لم يلتق بوالده إلا فى مطلع شبابه. أما والدته، فقد تولت تربيته وحدها، وكانت تعمل مزارعة، فقد علمته الكثير ولكنها لم تعلمه ثقافة تقبل الأخر. وبعدما تلقى كاراديتش تعليمة الأساسي، قرر عام 1960 أن ينتقل لسراييفو لدراسة الطب النفسى فى جامعتها حتى حصل على شهادة التخرج عام 1971، وبعد الإنتهاء من دراسته سافر لنيويورك للتدريب الطبى لمدة عام فى جامعة كولومبيا ليعود منها إلى مسقط رأسه عام 1975 ويعمل بأحد المصحات النفسية. ووفقا لشهادة العاملين معه، فقد كان كاراديتش يعزز دخله بالرشاوى، التى كان يحصل عليها من خلال كتابة تقارير طبية كاذبة للعاملين الذين يريدون التقاعد المبكر وللمجرمين والمساجين الذين يريدون تقارير تفيد بأنهم يعانون من أمراض عقلية، واضطرابات نفسية تجنبا للعقاب. وقد عرف عن كاراديتش أنذاك نظم الأشعار، التى كانت تمجد فى الصرب وتقاليدهم، وكان يجتمع دوما بعدد من الشعراء المشاهير، ومن بينهم الكاتب القومى الصربى دوبريجا كوسيج الذى شجعه على خوض المعترك السياسي، الأمر الذى وجد ترحيبا لديه. وفى عام 1989 ساهم بتأسيس حزب الخضر، وساعد فى تأسيس الحزب الديمقراطى الصربي، الذى جاء كرد فعل على صعود الأحزاب القومية الكرواتية والبوسنية. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، تزايدت الأصوات المنادية بتفكيك الإتحاد اليوغسلافي، والذى كان يضم "كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا ويوغسلافيا والبوسنة والهرسك"، فقد أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا إستقلالهم عام 1991، ولكن جاءت الأزمة حينما أعلنت البوسنة والهرسك إستقلالها عام 1992 مما تسبب فى إندلاع حرب أهلية. ومن هنا بدأ الفصل الأكثر إجراما بعدما أبرم الإتفاق الدموى بين أشهر سفاحى القرن العشرين سلوبودان ميلوسوفيتش رئيس يوغسلافيا، ورادوفان كراديتش، الذى أعلن عن قيام جمهورية صرب البوسنة، ونصب نفسه رئيسا لها. ومنذ 1992 حتى 1995 اتبع كراديتش نظام "الإبادة العرقية" لسكان سراييفو من المسلمين بأساليب تعذيب ممنهجة بالقتل الجماعى للشباب والرجال، فقد تجاوز عدد القتلى 200 الف شخص، من بينهم 8 الأف تم إعدامهم جميعا فى مذبحة "سربرنيتشا"، ثم دفنهم فى مقابر جماعية، إلى جانب اغتصاب النساء والفتيات بشكل وحشي، والإستيلاء على ممتلكاتهم، وهدم كل ما هو مقدس لهم، مما أجبر نحو مليون مواطن على ترك مساكنهم. وفى عام 1995 تم إبرام اتفاقية دايتون، التى أنهت الحرب فى البوسنة، بعدما أنتفض المجتمع الدولى جراء ما حدث من جرائم خلال تلك الحرب، حيث كف عن صمته مطالبا بمحاكمة المتورطين بها، وعلى رأسهم كاراديتش، الذى أجبر على الاستقالة من منصبه، ليبدأ رحلة فراره، وتبدأ رحلة البحث عنه حتى وقع فى يد العدالة لينال عقابه الذى لن يمحو أبدا ما ارتكبه من فظائع وجرائم رغم مرور كل تلك السنوات.