فيما كان الجدل يتواصل حول القرار المفاجئ بسحب قواته من سوريا ، عاد الرئيس فلاديمير بوتين ليباغت الداخل والخارج ثانية بالاعلان عن نتائج العملية الجوية العسكرية وتكريم العسكريين والخبراء ممن شاركوا فى العمليات القتالية، مؤكدا ان قواته لم تنسحب من الساحة، وانها يمكن ان تعود مرة أخرى خلال ساعات معدودات اذا اقتضى الأمر. مثل هذه التصريحات تحمل فى طياتها الشئ ونقيضه وتبدو ك"سلة ممتلئة" فيها ما يلائم كل الأذواق، وما يمكن تطويعه بما يتناسب مع مختلف أطياف السياسة. فمن قائل ان قرار سحب القوات بادرة سلام توحى بقرب التوصل الى التسوية المنشودة من حيث كونه اشارة ايجابية الى الاطراف المشاركة فى حوار جنيف، الى آخر يقول ان القرار اشارة نحو تراجع الرئيس بوتين عن سابق توجهاته بسبب ما تكبدته روسيا من خسائر اقتصادية الى جانب عدم قدرتها على مواصلة تحمل ما فرضه الغرب عليها من عقوبات، فى نفس الوقت الذى اعتبر فيه مراقبون وساسة كثيرون ذلك القرار وكأنه يستهدف الضغط على الرئيس السورى بشار الاسد من اجل عدم المضى بعيدا فى احلامه حول الاستمرار فى العمليات القتالية حتى تحرير بقية الارض السورية، فضلا عما افصح عنه البعض حول ان القرار جاء بعد التشاور مع الرئيس الامريكى باراك اوباما، بينما ظهر من يقول ان المسالة تاتى فى اطار تفاهمات مع مختلف اطراف الساحة ومنها ايران و"حزب الله" فضلا عن اعتبارها محاولة لدفع القوى الخارجية الاخرى الى الاقتداء بموسكو. ازاء ذلك كله كان لا بد للرئيس الروسى ان يخرج ثانية فى احتفال كبير اعده لاستقبال سبعمائة من ابطال العمليات القتالية لمنحهم اعلى اوسمة الوطن فى الكرملين، وليؤكد ما سبق واودعه خطابه الاول واكتنف الغموض بعض جوانبه، تحت وقع المفاجأة التى باغت بها الداخل والخارج على حد سواء. ولما كان ما قاله بوتين كثير، وايضا "يرضى كل الاذواق"، فانه قد يكون من المهم ان نعود ثانية الى الخطابين فى محاولة لتبديد ما بدا عصيا على الفهم ربما، او ما رفضت بعض العقول قبوله من منطلق رفض كل ما يصدر عن روسيا ورئيسها. بداية .. نعيد الى الاذهان ما سبق واعلنه الرئيس الروسى فى 30 سبتمبر الماضى تاريخ انطلاقة "العملية الجوية الفضائية" ضد مواقع "داعش" و"جبهة النصرة" وغيرهما من التنظيمات الارهابية فى سوريا. آنذاك قال بوتين ان العملية تستهدف القضاء على المنظمات الارهابية التى تهدد ايضا المصالح الوطنية للدولة الروسية. قال ان العملية ليست مرتبطة بموعد زمنى محدد "وأن المرحلة النشيطة من عملنا ستكون محدودة بانتهاء عمليات هجوم الجيش السوري". واذا كان بوتين اعلن فى البداية اقتصار العملية العسكرية على الضربات الجوية فان ذلك لم يكن يعنى عدم استخدام القوات البحرية حيث سرعان ما شهد العالم انطلاق المنظومات الصاروخية الاستراتيجية بعيدة المدى من البوارج الحربية والغواصات الموجودة جنوب غربى بحر قزوين فى الشرق، وكذلك التى كانت على مقربة من السواحل السورية فى شرق المتوسط، وهو ما كشف عنه بوتين حين قال ان هذه المنظومات الصاروخية استخدمت لاول مرة فى تاريخ العمليات القتالية، فضلا عما قاله مؤخرا حول ان الحرب فى سوريا كانت فرصة مناسبة لتدريب القوات المسلحة الروسية. وفى ذلك ما يجيب على بعض التساؤلات التى تناقلتها الألسنة فى الكثير من العواصمالغربية والعربية، الى جانب ما اضافه بوتين بكشفه عن ان العملية لم تتكلف اكثر من 33 مليار روبل اى ما يزيد قليلا عن نصف مليار دولار قال انها كانت مدرجة للتدريبات ضمن ميزانية القوات المسلحة لعام 2015. هكذا كان ولوج بوتين للاجواء السورية مفاجأة ألجمت الكثيرين، فيما يبدو اليوم قراره حول الخروج منها مفاجأة ايضا لم يفق منها الكثيرون بعد، ومنهم قادة البلدان الغربية، وباراك اوباما ليس استثناء من ذلك باعتراف الناطقين باسم البيت الابيض والخارجية الامريكية. اخذ بوتين زمام المبادرة فى الحالتين، بل وعاد ليؤكد انها لا تزال بين يديه، باشارته الى ان القوات الروسية تستطيع العودة الى الساحة السورية خلال ساعات معدودات اذا اقتضى الامر ذلك، وان القوات الروسية ستظل فى قاعدتى "حميميم" الجوية على مقربة من اللاذقية و"قاعدة طرطوس" البحرية، مؤكدا انها ستؤمن القاعدتين برا وبحرا وجوا ، فى اشارة الى الابقاء على احدث المنظومات الصاروخية "اس-400"، واحدث البوارج والقطع البحرية شرقى المتوسط، فضلا عما تسرب من معلومات حول وجود عدد من احدث الدبابات "ت-90" المزودة باحدث التكنولوجيا على ارض المعركة بعد ان شاركت فى بعض العمليات التى ساهمت فى استعادة الجيش السورى لزمام المبادرة ولعدد من اهم المدن والمناطق والطرق الاستراتيجية فى سوريا. وكانت المصادر الروسية قالت ان العملية العسكرية ساهمت فى استعادة ما يزيد على نسبة 34% من الاراضى التى كانت التنظيمات الارهابية تحتلها قبل بدء هذه العملية الى جانب تدمير اهم مواقعها ومراكز تدريبها وقطع سبل اتصالاتها. وبهذا الصدد نستشهد ببعض ما قاله بوتين حول "أن منظومات الدفاع الجوى الروسية، بما فى ذلك صواريخ "أس-400"، ستقوم بدوريات قتالية دائمة فى سوريا وستُستخدَم لحماية العسكريين الروس فى قاعدتى "طرطوس" و"حميميم" من أى أخطار"، و" أن موسكو أبلغت كل شركائها بأنها ستستخدم منظومتها للدفاع الجوى ضد أى هدف تعتبره خطرا على عسكرييها". واضاف بوتين "إن روسيا ستزيد قواتها فى سوريا لتصل إلى المستوى المناسب "خلال بضع ساعات" إذا اقتضت الضرورة ذلك"، وإن اكد أن موسكو لا تريد أن تفعل ذلك لأن "التصعيد العسكرى ليس خيارنا". وكان بوتين اكد ايضا "أن الأسلحة الروسية الحديثة اختبرت بنجاح فى ظروف القتال الحقيقي، مشيرا إلى أن هذه التجربة ستسمح لروسيا برفع فعالية وقدرات أسلحتها". ونمضى مع الرئيس بوتين وتصريحاته حول نتائج العملية العسكرية، لنشير الى ما قاله حول ان العملية الروسية ساهمت فى انطلاق الاستعدادات لبدء عملية الحوار بين الاطراف السورية، والتحول نحو حوار جنيف الذى يتيح قرار سحب القوات الروسية من الاراضى السورية افضل فرصة لتوفير الاجواء المناسبة لنجاحه. وفى هذا الشأن لا نستطيع ان نستبعد ما سبق واشرنا اليه على صفحات "الأهرام" من موسكو حول ان القرار الاخير اشارة غير مباشرة الى الرئيس السورى من اجل الحد من غلوائه، والكف عن تصريحاته على غرار "التمسك بالاستمرار فى العمليات العسكرية حتى تحرير كامل الارض السورية". وكانت موسكو ارسلت اكثر من اشارة الى الاسد منذ "جاءت به" على متن طائرة حربية الى موسكو، وكشفت عن انه ارتكب الكثير من الاخطاء، بينما اشار الى ذلك على نحو غير مباشر فيتالى تشوركين المندوب الدائم لروسيا فى الاممالمتحدة فى معرض حديثه الى صحيفة "كوميرسانت" حين اعاد الى الاذهان بعضا من صفحات مهمته فى البلقان مبعوثا شخصيا للرئيس الروسى ابان تسعينيات القرن الماضى . قال تشوركين انه قال لصرب البوسنة آنذاك "اذا كنتم تريدون منًا الاستمرار فى وساطتنا، فمن الواجب عليكم الاستماع الى توصياتنا". لكن ذلك لا يعنى "القطيعة" مع الحكومة السورية ولا سيما بعد كل ما قامت به موسكو من اجل اعداده لخوض المفاوضات من موقع اقوى، وكان قاب قوسين او ادنى من السقوط ما كان فى صدارة اسباب البدء فى العملية العسكرية الروسية فى نهاية سبتمبر الماضي، بينما ساهمت بشكل اساسى فى دعم المؤسسات السورية الشرعية وفى مقدمتها الجيش والحكومة. على ان كل ذلك فى مجمله لا يمكن إلا أن يعنى ايضا ان روسيا صارت رقما لا يستهان به يعملون حسابه، فى نفس الوقت الذى يظل وبهذا الصدد يتذكر المراقبون دوره فى اقناع نظيره الامريكى اوباما بالتخلى عن خطة ضرب سوريا والتوصل الى موافقة السوريين على تصفية اسلحتهم الكيماوية، وكذلك فى التوصل الى الحل المنشود بشأن ملف البرنامج النووى الايرانى الى جانب ما قامت وتقوم به موسكو من اجل تقريب مواقف الاطراف حول مائدة المفاوضات. اما عن الاوضاع فى سوريا فقد عادت موسكو لتؤكد ما سبق واكدته فى اكثر من مناسبة حول انها تظل مع كل ما يمكن ان تتوصل اليه الاطراف السورية المعنية فى جنيف ، وهو ما تقصد به كل الامور سواء كان ذلك مستقبل الرئيس السورى بشار الاسد او الحكم الذاتى للاكراد السوريين وهو ما افصح عنه مؤخرا ميخائيل بوجدانوف المبعوث الشخصى للرئيس بوتين فى الشرق الاوسط والمسئول عن ملف البلدان العربية فى الخارجية الروسية. وكانت وكالة أنباء "تاس" نقلت عن بوجدانوف ما قاله حول "أن روسيا ستوافق على أى بنية لسوريا إذا نالت موافقة كل الأطراف المشاركة فى المفاوضات"، الى جانب اشارته الى "ان تقرير مصير الأكراد فى سوريا يبدو ممكنا ولكن يجب أن يذكر ذلك فى الدستور الجديد. كما يجب الاتفاق على ذلك مع باقى المشاركين فى عملية المفاوضات. ومثل هذه المسائل يجب أن تحل على أساس الإجماع" على حد تعبيره. وتلك قضية لا يزال الغموض يكتنف الكثير من جوانبها وتحتاج الى متابعة لاحقة من منظور ما صدر عن ممثلى موسكو من تصريحات حول الموقف من "فدرلة" سوريا.