كلهن احتفظن بثياب الشهادة، كلما أرهقهن الحنين وآلمتهن الذكري، عاودوا اشتمامها ،تلك الثياب التي تفوح بعطر أرواح أبنائهن، إنهن أمهات الشهداء، اللائي ربما عشن فيما مضي أعياد أم اكثر حظا وسعادة ، لكنه الآن أصبح يوما للتذكر ، يحمل لهن بعضا من كلمات أبنائهن قبل استشهادهم، وعودة للبحث في كراكيب الذكريات وهداياهم في الأعوام السابقة لموتهم ، كان علينا أن نقول لهن ،أولئكن اللاتى منحنا الحياة بأرواح ابنائهن الخالدة: «كل عام وأم البطل بخير، كل عام وكلنا لا ينسي الشهيد وآله» . هاتفنا أم الشهيد مصطفي العقاد شهيد يناير فكان الهاتف يصرخ « راسك لفوق ياأم الشهيد ماتدمعيش،ابنك بطل» .. حتي اجابتنا، فقالت لنا متنهدة: اااااه .. في عيد الام بافتكر كلامه ليا لما كان بيقولي اول مرتب 6 شهور ليا هاطلعك به عُمرة ياماما، مش قادرة اصدق انه خلاص مات ، واستطردت : «في عيد الام بافتكر مصطفي الجدع اللي كان بيخدم كل الناس، وانا كنت أقوله ماتبقاش خدام لحد، يقولي أنا بأعمل خير لله ياماما عشان لما تحتاجيه تلاقي اللي أنا عملته ربنا بيردهولك «.. ثم سكتت هنيهة وقالت: الكلام عن مصطفي بيتعبني، اعتذرنا لها عن تذكيرها، فأجابتنا انها لاتنسي قالت مصطفي وجدته عشية الرابع والعشرين يعد لافتات، يكتب عليها «عيش.. حرية .. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية» ، كان يعد شعارات الثورة، لم أكن أدرك ذلك وقتها، سألته عما يفعل، فأجابني أنه يلعب مع زميله إبراهيم بهذه «الكراتين»، ثم نزل يوم 25 يناير وعاد، ولم أعرف شيئا وقتها، حتي تحدث معي وقال لي : «كان في ضرب نار في التحرير» وعرفت انه نزل يتظاهر، صرخت من الخوف عليه، وقصصت مارواه لي مصطفي لأبيه، فقرر أبوه أن يحبسه، وحبسه بالفعل يوم 26 يناير بالمنزل، واضطر لفك حبسه يوم الخميس السابع والعشرين من يناير لأجل تأدية امتحانه، وصبيحة يوم الجمعة، أخذه أبوه لأداء الصلاة معه في نفس المسجد، ثم عاد به وأدخله المنزل وأغلق الباب بالمفتاح علي مصطفي وبقي أبوه أمام المنزل، وظل مصطفي يتوسل لأبيه أن يخرج لأمر هام مع أصحابه، ويرفض والده، وتضيف والدته: «كنا ساكنين في الدور الأول، دخلت أطبق الغسيل، وبعدين ناديت يامصطفي يامصطفي، مصطفي لم يرد، دخلت أبحث عنه في غرفته، فوجدته قفز من الشباك وذهب الي الميدان، ولم تفلح أقفالنا عليه، ذهب ولم يعد، ذهبنا نبحث عنه في كل مكان، كنت أبحث عنه وانا حافية القدمين ،عارية الرأس، نبحث تحت طلقات الرصاص والأسلحة التي ملأت الشوارع يومها، حتي عاد صديقه، وقال لي: مصطفي مات، صرخت، فقال لي صديق آخر لهم، مصطفي مصاب، جيت اتصل بأبيه، مفيش اتصالات، ذهبت أبحث عنه في المستشفيات، وصلت في النهاية لمستشفي الأميرية، لقيت الجيران في المستشفي، دخلت المستشفي لقيت الدم والجثث في كل مكان، علي السلالم والأرضيات والكراسي،لما دخلت عرفت أن أباه كان معاه في المستشفي ولحقه وهو لسه عايش، ولقنه الشهادة ونزله التلاجة ورجع يجيب فلوس عشان تصاريح الدفن، نزلت التلاجة وانا مش مصدقة انه مات، ناس قالولي مات وناس قالولي اتصاب، وأنا كنت حاسة إنه عايش، جبناه علي البيت، وأنا افتكرت مصطفي لما كان أبوه يضربه، كان يمثل إنه مغمي عليه، أنا فكرت إنه خايف من أبوه عشان خرج وهو مانعه، رفعت الغطا عن وشه، كان متغطي ب 3 ملايات، غرقانين دم، كأنه مدبوح، وأنا قعدت اتكلم معاه واقوله قوم يامصطفي، ابوك مش هنا، أنا هنا أنا وأم يوسف وأبو يوسف جارنا بس في التاكسي، قوم ياحبيبي ماتخفش مش هخلي ابوك يضربك، وفضلت اضربه علي وشه، عشان يفوق، بس ماردش عليا، جارتي لما لقتني كده، قالتلي طب استني ياأم مصطفي لما نروح البيت هيصحا لك، دخلت البيت، وقفلت عليا أنا وهو الأوضة، قولتله قوم بقي يامصطفي، انا هنا لوحدي معاك أهو رد عليا بقي،قعدت ابص فيه، لقيته حلو اوي، أحلي من ابني اللي اعرفه، قولتله، انت مش ابني، صرخت في أبوه، ده مش ابني ابني ما متش، كان فيه علامة في ضهره، دورت عليها عشان اتأكد، لقيتها، فضلت اضرب علي قلبي واصرخ ،كان عندي أمل إنه عايش، جبت الدكتور مرتين، أول مرة قعدت جنب مصطفي، أقوله عشان خاطري يامصطفي افتح عينك ،وانا شوفته بيفتح عينه وداس علي إيدي لما مسكت إيده ،صرخت وقولت عايش ،الدكتور قالي هو زعلان عشانك بس هو مات ،سيبيه ماتبهدلهوش ، بس أنا فضلت معاه لحد الغسل والكفن، وخرجت في الجنازة، كانت مظاهرة مش جنازة، كانت كبيرة زي جنازة عبد الناصر.. أما والدة الشهيد محمد فاروق معاون مباحث كرداسة، فتقول : من 3 سنين مابقتش اعرف للسعادة طعم، بعد استشهاده، أتذكره دوما وهو يوصي بي أخاه حين استشعر قرب الأجل «.. وتذكر السيدة قصة استشهاده جيدا، فتقول: صباح الرابع عشر من أغسطس لعام 2013، محمد كان نائما، مأموريته كانت من الثالثة عصرا وحتي الواحدة بعد منتصف الليل، اتصل به النقيب هشام شتا في تمام السابعة صباحا، أخبره أنهم محاصرون في القسم، توسلت إليه ألا يذهب، فرفض وأصر علي النزول، ظللنا نتصل عليه من الثانية عشر ظهرا، فأجاب أخته فطمأنها انه بخير، ثم هاتفه أخوه في الواحدة ظهرا فقال له: «خلي بالك من ماما» ، تقول والدته قلبي كان يستشعر موته قبل نزوله، كنت أشعر أنه لن يعود، حتي اتصلت به في الثانية ظهرا، ففوجئت بهاتفه مغلق، جن جنوننا، ذهبنا كرداسة نبحث عنه، لم نستطع دخولها، كانت كل مداخلها مغلقة، حتي استطاع زوج اخته دخولها بعد فترة، فوجده ملقي علي الأرض مقتولا برصاصتين، لكنني وانا التي كنت أظنه قبل خروجه سيلقي حتفه، الآن، رفضت كل ظنوني، جاهدتها جميعا، وظللت أقول لابنتي لعله مصاب، لعل إصابته في اليد أو القدم، قدر أخف وطأة من قدر، دخلت المستشفي، فوجدت الطبيب يحاول إسعاف النقيب محمد فاروق في غرفة العمليات، وظللت أحدث الناس جميعا وأقول لكل من يتصل بي لمواساتي محمد «عايش»، مصاب الحمد لله «مامتش»، حتي خرج الطبيب وسألني عن اسمه بالكامل،فأخبرته أنه محمد فاروق وهدان ،فقال لي إنه قد توفي ، وأنه آسف لتشابه الأسماء، تذكرتني في لحظة مرت كالدهر، وأنا أوصيه بأخته وأخيه من بعدي خيرا، فيضحك ويقول لي: «إيه اللي بتقوليه ده ياماما؟!، تذكرته وأنا أوصيه أن يودع أمواله ببنك ليشتري شقة، فيعطيهما لي، غير عابئ بشراء شقة لنفسه وهو في السابعة والعشرين من عمره، تذكرته وهو يكفل أسرا كاملة في كرداسة، تذكرتني وأنا أتوسل إليه ألا يخرج، وأنا أقول له اترك العمل في الشرطة وأنا أدفع عنك الغرامة،فيضحك ويقول لي : «يا ماما انا معرفش أشتغل حاجة غير ضابط مباحث»، وأتذكر دوما أن أسأله في كل زياره أزورها لقبره، «إزاي عرفت تدخل والبلد كرداسة كانت مقفولة بالشكل ده ياابني ؟! أتذكره واتمني لو لم يستطع الدخول إليها، وتختتم حديثها معنا قائلة، لا أريد سوي حقه ممن قتلوه. أما حسين طه شهيد الوطن، طالب كلية الحقوق، فتذكره والدته قائلة: لم يكن حسين لديه أحلام سوي أن يصبح وكيل نيابة ليحقق العدالة التي نزل في يناير رافعا إياها شعارا له، وحلم نيل الشهادة، وقد سعي لهما معا، لم يكن يعرف أن القدر سيخطهما له معا، يهتف طالبا العدالة وينال لأجلها وفي سبيلها الشهادة، قائلة : كان يحدثني عن رغبته في الموت شهيدا، فكنت أقول له كيف ستحصل عليها وبلادنا ليست في حالة حرب، لم أكن اعرف أنه ستقوم ثورة في البلاد ويستشهد فيها ابني، مضيفة، حسين نزل يوم 25 يناير ورجع، ويوم الجمعة، قالي هصلي الجمعة في مسجد القائد ابراهيم، لكنه لم يعد يومها، بحثنا عنه يومين، حتي وجدناه مساء الأحد، في كوم الدكة، فقدت ولدي الكبير وفقدت معه طعم الفرح وتذوق الأعياد، لم يعد بإمكان أي شيء في العالم أن يسعدني بعد استشهاد ولدي ،أي عيد أم لأم فقدت أول فرحتها!. والدة الشهيد أحمد صابر مصطفي، ذي الستة عشر عاما، تذكر ابنها، قائلة لا أريد سوي ان يذكر الناس ابني وشهداء يناير ولا ينسوهم، أريدهم أن يذكروا «قلبظ» ابني كما كنت أناديه، والذي تلقي 4 طلقات رصاص ،انتشرت في أنحاء جسده ،ولا أريد لأم أن تشعر ما شعرته أنا حين أخبرني أصدقاؤه انه مصاب، ثم ذهبت الي مستشفي سيد جلال لأجده جثة هامدة، لم أكن أعده للموت،كان قد أنهي امتحانات نصف العام لتوه، فإذا بالموت يختطفه مني، مضيفة لو كانت لي من الدنيا أمنية أريدها أن تتحقق فهي أن يتوفر وظائف لكل الشباب، حتي يتم شعار العيش الذي رفعته الثورة، واستشهد ابني خلالها. في حين يروي شقيق الشهيد محمد محمود عبد العزيز ، كيف فقد أخاه الملازم أول، قائلا: محمد كان في أجازة رسمية يوم فض اعتصام النهضة،لكنه تلقي تليفونا بعد الإفطار، فوجدناه يرتدي الأفرول ،سألناه، إلي أين ستذهب؟، أخبرنا ان لديه مأمورية صغيرة وسيعود سريعا،لكنه وقف علي سلم المنزل ونظر إلينا جميعا ثم احتضن امه، وقال: «لو استشهدت مش عايز جثتي تتشرح»، أمه صرخت في وجهه:«لماذا تقول ذلك؟» فقال لها أنه يوصيهم بشكل عام وليس هناك مايدعو للقلق، ثم ذهب الي السيارة ونظر الي البيت من كل زاوية قبل أن يركب سيارته، نظراته وكلماته أخافتنا، شعرنا أنه قد حان وقت فض الاعتصام، عرفنا بعد ذلك انه أول من اصيب في فض الاعتصام، اصيب بطلقات سامة نفذت الي جسده، توفي بعدها بشهر، لم نكن نعرف ان الله سيستجيب لدعائه الدائم بنيل الشهادة، لتبقي أمه تعيش بين ذكرياته وتستدعي نظراته ولحظات الوداع الاخيرة في عيد أم مكلومة بفقد ولدها . كل الذين تحدثنا إليهم، اعتذرلنا لهم عن تذكيرهم بآلامهم، فأخبرونا انهم لم ينسوهم يوما واحدا، وسواء كان الشهداء من الذين قتلوا في مواجهة نظام مبارك في ثورة الخامس والعشرين من يناير، أم كانوا من بعض ضباط الشرطة الذين تحملوا تبعات إسقاط جماعة الإخوان فقتلوا أيضا، فإن آلام الفقد التي تنتاب ذويهم واحدة، ودوافع الذين استشهدوا جميعا هي الحب ،حب الوطن وإيثاره علي أرواحهم وحياتهم، ونحن لا نملك لهم جميعا إلا الثناء عليهم ماحيينا والوفاء لأحلامهم التي خطوها لأوطاننا ودفعوا حياتهم ثمنا لذلك .