لم يكن مستغربا أن يخفق الاعلام العربي بالتجاوب مع الثورات العربية, وبالذات في ان يرتقي الي مصاف الروح الثورية التي تفجرت في العديد من دولنا ومجتمعاتنا منذ اكثر من عام. فالاعلام بالتالي هو ابن بيئته وغرسة ذات التربة التي نمت فيها منظومات المعرفة والثقافة والقيم تحت سلطة انظمة الاستبداد والفساد والقمع والتي نهضت طليعة ثورات الربيع العربي لوئدها وتمهيد السبيل لولادة انظمة الحرية والعدالة والديمقراطية التي طال انتظارها. غير ان السؤال الذي يواجه الاعلام العربي الان هو هل سيستطيع بالعجز والتردد والانكفاء الذي كشف عنه أن يواجه التحديات المهنية والاخلاقية التي فرضتها الأجواء والأدوات الثورية لكي يحتفظ ليس فقط بمصداقيته ونزاهته, بل أيضا بدوره ومؤسساته ومكانته وسط حراك سياسي واجتماعي متسارع وممتد, مصحوبا بصراع ضار علي الأفئدة والعقول بين قوي آفلة وأخري زاحفة نحو المستقبل الواعد. تكشف الصورة الاجمالية للاعلام العربي في عصر الثورات العربية عن فجوة هائلة بين حاجة الناس, في وضع انتقالي سائل وشائك ومضطرب, الي وسائل اتصال حرة وديناميكية تعكس متطلبات تجاوز المرحلة وبين نظام اعلامي بائد متحكم وتقليدي بكل اجهزته وآلياته وشخوصه واخلاقياته المهنية, يجعله ليس فقط متخلفا عن اللحاق بركب الثورة وحاجتها الي نظام اعلامي ومعرفي جديد, بل اقرب الي قوي الثورة المضادة. السبب الذي يجعل الاعلام العربي عاجزا عن التلاقح والالتحام بأهداف التغير والنهوض التي تمثلها الثورات يعود بالاساس الي أن منظومته التقليدية, سواء في شطرها المملوك للدولة, أو ذلك الذي تهيمن عليه احتكارات عائلية واقتصادية ليست بعيدة عنها, لاتزال غير قادرة علي الخروج من عباءة السلطة والمال وخطابهما الاحتوائي, ومن صناعة التلقين والتلاعب وتوجيه العقول والتحشيد التي يديرها هذا التحالف ويكشف المشهد الاعلامي العربي الراهن, وخاصة في الفضاء التليفزيوني الأكثر جماهيرية, عن حالة تغول لمنظومة تقودها شراكة السلطة والمال في دول ومجاميع الخريف العربي في مواجهة الثورات, وبهدف تشويه صورتها وتلفيق توجهاتها ومحاولة حرفها عن مآلاتها في إحداث التغير الجذري والعميق المطلوب في بنيات المجتمعات العربية. هناك أمثلة واضحة لايخطئها البصر ولا البصيرة, عن ممارسات من هذا النوع, تجري عن طريق المكر والخديعة والتضليل, أو التزلف وركوب موجات الثورة والتحدث بلسانها ومن خلال أموال طائلة وتوجيه مركزي بغرض تحقيق تلك الأهداف وتقويض الثورات ودورها الملهم في الانتقال الي عصر جديد. هناك مخاطر حقيقية تواجه حركة الاعلام العربي مع الاختلالات المتوقعة في التحولات الحادثة, منها امكانية هيمنة قوي غير ديمقراطية, سوف تحاول تعزيز قبضتها علي الاعلام بالتوجيه أو الرقابة أو حتي من خلال السيطرة الكلية. ومعني ذلك هو أنه بقدر ما ستكون معركة المجتمع خلال الفترات الانتقالية هي معركة الناس من أجل الديمقراطية فإنها أيضا معركة الاعلام في الدفاع المستميت عن استقلاليته وتحصين نفسه ضد القوي الايدولوجية والاقتصادية التي ستسعي للتحكم به وبالمحتوي الجوهري للرسالة الاعلامية. ان نظرة متفحصة للآداء الاعلامي العربي السائد, الذي أصبحت تهيمن عليه وتوظفه احتكارات مالية سياسية, والي أسلوب تغطيته للثورات العربية, ستكشف عن تراجع فاضح في المعايير المهنية والأخلاقية علي حساب الحقيقة والموضوعية, تدنت الي مستوي الخيانة, ولصالح أجندات أنظمة وجماعات ومؤسسات تقف ضمنا في خندق قوي الثورة المضادة, ولعل اكثر ما يثير الشفقة والاشمئزاز هو المحاولات البائسة لوضع العاملين والمشاركين في وسائل الاعلام هذه وسط طوق من المرايا المحدبة كي لايروا من خلالها غير ماتعكسه أمامهم من صور مضخمة وعلي غير الحقيقة, مطلوب منهم أن يعكسوها بدورهم, وبأسلوب اللعب علي الحبلين, الي جمهور يظنونه لايزال مغشيا عليه وصالحا للتلقين والامتثال والصمت بعد كل ماحصل. من ناحية ثانية, يواجه الاعلام العربي تحدي مواكبة الاعلام الالكتروني بمختلف أشكاله والذي منحته الثورات العربية زخما وحجما استثنائيين جعلت منه أكثر تحررا وجرأة في النشر والتناول والتحليل وخلقت به فضاء واسعا ومتجددا يصعب منافسته من غير بدائل جذابة ومتينة ضمن نظام السوق وشروط التكلفة الاقتصادية. واذا كانت الثورة تعني, في أصولها اللغوية والفكرية, الحركة والاندفاع والطاقة, فإن الأجدر بالاعلام العربي أن ينظم في فلك الثورات الهادف الي خلق عالم عربي جديد أصبحت ولادته حتمية علي انقاض ذلك الذي بدأ يتهدم. ان انتصار الاعلام العربي لقيم الثورات وأهدافها هو انتصار لذاته ولمصلحته أولا, حيث إنه بانتصاره للحرية سيحرر نفسه من الكثير من الأوهام والقيود ويحقق استقلاليته التامة ضد الاحتكارات التي أصبحت تتحكم به وتحيله الي أداة من أدوات التلاعب والتضليل والابتذال, كما سيزيد من مناعته في مواجهة القوي المتربصة التي تستعد للانقضاض عليه. كاتب عراقي