كشرت بعض القوي السياسية عن أنيابها بعد اسبوع واحد من خلع مبارك عندما اتهموا د. يوسف القرضاوي بأنه خميني الثورة الذي يريد اختطافها. كانت هذه هي البداية الحقيقية للاستقطاب الذي وضع نهاية لحالة استثنائية من التوحد لم يتحملها العلمانيون. وهو ما جعل أيام الثورة استثناء لن يتكرر. منذ ذلك الحين, والسيرك الإعلامي منصوب للإسلاميين بمناسبة وبغير مناسبة, تخوين وأكاذيب وبذاءات, واتهامات بصفقة مع العسكري وبالموالسة مع الوطني وبسرقة الثورة والمتاجرة بدماء شهدائها وتأميم الثورة وإقصاء رموزها واغتيال أحلامها.. عندما أعلن الإخوان العام الماضي عن عدم رغبتهم في التقدم بمرشح لمنصب الرئاسة, وعدم السعي وراء أغلبية برلمانية, رغم أن ذلك حقهم, كان الهدف من ذلك هو طمأنة خصوم الداخل وأعداء الخارج. غير أن ما جري بالفعل هو أن العلمانيين, والصحف والفضائيات الناطقة باسمهم, لم يطمئنوا, بل ازدادوا شراسة في حربهم علي الإخوان, وهو ما أعطي انطباعا بأن المشكلة الإخوانية لا علاقة لها بنسب المشاركة, وإنما في وجود الإخوان ذاته. والسؤال هو: لماذا كل هذا الهوس بالإخوان, إلي درجة تفعيل الفزاعة الإسلامية بعدوانية لم نرها حتي من إعلام مبارك ؟.. ما الذي يدفع بعض القوي إلي خيانة الديمقراطية بالانقلاب علي أول استفتاء حر في تاريخ مصر, والضغط من أجل حل أول برلمان للثورة ؟ الإجابة ببساطة هي الدستور, الذي ستتحدد علي أساسه هوية مصر. إن الأقلية تقاتل منذ خلع مبارك من أجل إقصاء الإسلاميين عن صياغة الدستور. ولهذا تمردت علي خيار الشعب في الاستفتاء, واتهمت رموزها الشعب بالقصور والبلاهة. الأقلية رافضة أن يحكم الإسلاميون مصر ورافضة حتي منحهم فرصة لإثبات جدارتهم.. ولهذا قررت مقاومة هذا الأمر بكل الوسائل..الطعن في قانون الانتخابات استغلالا للغم الذي زرع فيه من أجل التخلص من البرلمان وأغلبيته, توظيف الاحتكار شبه الكامل للصحف والفضائيات لتسميم عقول الناس ضد الإخوان بتضخيم أخطائهم وتشويه دوافعها, وإطلاق الأكاذيب ضدهم وترديدها بصفة مستمرة حتي تتحول إلي حقائق, علي أمل أن يستثمر ذلك في أية انتخابات قادمة توجيه متواصل للشتائم والبذاءات إلي الإخوان من أجل شحن النفوس إلي الدرجة التي يستحيل معها التوافق شغل الأغلبية البرلمانية بقضايا فرعية لصرف انتباهها عن القضايا الملحة, استخدام أسلوب المكايدة والمخالفة لإرهاقها.. مثل رفض حكومة الجنزوري عندما قررت الأغلبية منحها فرصة للحكم, ثم الوقوف معها عندما سعت الأغلبية إلي إزاحتها وحجب الثقة عنها علي خلفية فشلها. أما السلاح الأقوي, بعد سلاح الإعلام, فهو المجلس العسكري, والاستقواء به والتلويح المستمر في الصحف باحتمال تدخله إذا ما استمر تعنت الأغلبية. وتظهر ملامح التنسيق والتوافق بين الطرفين, علي فرض الهوية العلمانية علي مصر, فيما يلي: إصدار إعلان دستوري يتجاوز استفتاء19 مارس, يوفر ذريعة لرفض الاستفتاء ونتيجته استجابة المجلس لمطالب الأقلية بالبقاء في الحكم بعد الأشهر الستة التي تعهد بأن يرحل في نهايتها, وهو نقيض ما صوت عليه77% من الشعب استجابة المجلس لضغوط الأقلية بالخلط بين القائمة والفردي في قانون الانتخابات, وهو ما سهل تلغيم هذا القانون بما يؤدي إلي عدم دستوريته التناغم الواضح, فور ظهور نتيجة الانتخابات, بين موقف الطرفين منها, حيث صدرت تصريحات عديدة من بعض الرموز بأن البرلمان غير ممثل للشعب وأنه ليس برلمان الثورة وأن الشرعية للميدان وليست للبرلمان.. تستخف حكومة الجنزوري بالبرلمان ويمتنع وزراؤها عن المثول أمام نواب الشعب, ويرضي المجلس العسكري عن هذا الوضع بصمته.. ومن ناحية أخري, تعلن بعض القوي العلمانية شماتتها في البرلمان, بدلا من أن تقف مع المجلس الوحيد صاحب الشرعية في مصر, وتضمر المصير نفسه للبرلمان من خلال تعجيزه بالدستور المعلمن الذي تسعي إليه يسعي كل منهما لتجاوز البرلمان في موضوع الجمعية التأسيسية.. الأقلية مارست ضغوطها وإرهابها الإعلامي حتي نجحت في إسقاط الجمعية التأسيسية, وأرسلت137 من شخصياتها للتنسيق مع المجلس العسكري من أجل فرض معايير الجمعية علي البرلمان. واجتمع المجلس بالفعل مع أحزاب الأقلية لوضع المعايير في غياب البرلمان. وأخيرا, بينما يضغط المشير بعنصر الوقت للانتهاء من الدستور قبل انتخاب الرئيس, تضغط الأقلية بحملة ترويع إعلامية من أجل دفع الإسلاميين إلي التنازل عن الأغلبية, مما يوفر المساحة المطلوبة لفرض أغلبية علمانية. يتضح إذن مما سبق أن الطرفين العسكري والعلماني( بشقيه الفلولي والثورجي) يخيران البرلمان بين أحد أمرين: إما الاستسلام لإملاءات الأقلية في تشكيل الجمعية من أجل صياغة دستور يحيل الأغلبية الإسلامية إلي جسد مشلول الإرادة, وإما حل البرلمان. هذا الإصرار علي فرض مرجعية علمانية علي الشعب, والمصحوب بابتزاز للنواب من أجل خيانة الأمانة التي حملها الشعب إياهم عندما انتخبهم لوضع دستور يضمن الهوية الإسلامية لمصر.