جاءت وقائع وتحرشات' ليلة رأس السنة' في مدينة كولن الألمانية لتزيد الجدل جدلا في ألمانيا وأوروبا, وتكشف المعلوم من قصور سياسات وآليات التعامل, القديم والمستحدث,مع مسألةاللجوء. أحدثت وقائع كولن ثلاث تبعات رئيسية وإن كانت غير جديدة كليا, فمنحت أولا حجة جديدة لخطاب كان بالفعل حاضرا في ألمانيا وأوروبا حول عامل' التهديد الثقافي' الذي يمثله الوافدون المسلمون والشرق أوسطيين علي' هوية' أوروبا وأنماطها الأخلاقية والاجتماعية, وبرز هذا الخطاب علي عدة مسارات أهمها المسار السياسي المعارض, المنظم وشبه المنظم منه, والمقصود هنا أحزاب وحركات اليمين المتطرف والمعادية للأجانب. فيلاحظ تخلي حزب مثل' البديل من أجل ألمانيا', عن الخطاب المتحفظ في استقبال اللاجئين, علي أساس مراعاة الحساسية التاريخية والتقليدية إزاء خطاب الكراهية والتعالي علي الأخر, تكفيرا عن الماضي النازي المشين, فانطلق حزب' البديل' وكذلك الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة مثل' بيجيدا', إلي توظيف وقائع ما جري في كولن, وبدرجة أدني في هامبورج وفرانكفورت, في تكريس حالة الاستقطاب الاجتماعي في ألمانيا إزاء القضية وتأكيد المخاوف من تهديد العنصر' الوافد' للنموذج الثقافي والاجتماعي الألماني. وتعثرت مساعي التوازن أمام هذا الاستقطاب وعمليات الحشد الغاضبة للرأي العام, مع محاولات محدودة لتفنيد خطاب يمين ألمانيا المتطرف علي أساس خطيئة أخذ الكل بجريمة البعض, وتسليط الضوء علي بعض الروايات الإيجابية التي حاولت الظهور في الإعلام المحلي حول مساعي وافدين من أصول شرق أوسطية لحماية ضحايا رأس السنة وصد المهاجمين, أو الإشارة إلي معاناة اليمين الألماني من الازدواجية والانتهازية الصريحة. فمتظاهرو' بيجيدا' ومن هم علي شاكلتهم أيديولوجيا, وقفوا دائما ضد مختلف الإصلاحات المستهدفة لمناصرة المرأة وتحقيق مزيد من المساواة لصالحها, مثال قانون' الأجر المتساوي بين الجنسين', وتحديد كوتة ملزمة للسيدات بنسبة30% في عضوية مجالس الشركات المختلفة, أو حتي برامج مكافحة العنف المنزلي التي كشفت التقارير الوزارية عن وقوع25% من السيدات الألمانيات ضحية لها. وكانت زيادة أعمال العنف ضد اللاجئين في ألمانيا نتاجا طبيعيا لما جري منذ ليلة رأس السنة, لكن الدقة تحول دون الجدل بأن كولن كانت بداية هذه الاعتداءات, بل هي فقط أذكتها لا أكثر. فقد كشفت تقارير الشرطة الألمانية نهاية2015 عن ارتفاع بمقدار تجاوز الضعف في وقائع الاعتداء ضد اللاجئين وكل ما يخصهم, بالمقارنة بالعام السابق. ويتوجب أيضا الإشارة هنا إلي تيار اليمين المتطرف الذي يتأثر, بطبيعة الحال, بالخطاب الرسمي لبعض الدول الأوروبية المحورية في أزمة اللجوء, والذي كان مشككا في إمكانية دمج اللاجئين والحفاظ علي هوية أوروبا. فقد أكد رئيس جمهورية التشيك ميلوس زيمان, في أعقاب أحداث كولن أن إدماج المسلمين في أوروبا يعد' مستحيلا من الناحية العملية', ووصف روبرت فيس, رئيس وزراء سلوفاكيا, مشروع' أوروبا المتعددة ثقافيا' ب'عدم الواقعية' و'الحلم', فكلها جاءت تذكرة بالتصريحات النارية لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قبل شهور حول تهديد الجذور المسيحية لأوروبا. وتتمثل ثاني التبعات في استمرار عملية إعادة تحديد توازن القوي السياسي في ألمانيا, علي ما يبدو لغير صالح ميركل ولو قليلا. فبعد سنوات الاستقرار السياسي لصالح التحالف المحافظ الحاكم, وحزب ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي, جاءت أزمة اللجوء لتحدث استقطابا سياسيا, فوجه اليمين المتطرف سهاما لسياسات' الباب المفتوح' أو' اليد الممدودة' التي أطلقتها ميركل منتصف2015, وما كان من حديثها حول' المسئولية الأخلاقية' لألمانيا وأوروبا إزاء أزمة اللجوء الأخيرة, وطرح نظرية استفادة المجتمع الألماني الذي يعاني ديموجرافيا من ارتفاع كتلة كبار السن وتراجع معدلات الإنجاب, من الوافدين الشباب إجمالا والمتعلمين نسبيا, في استمرار التفوق الاقتصادي للبلاد. مهدت سياسة ميركل لاستقبال أكثر من مليون لاجئ خلال شهور, وتحولت فكرة اللجوء إلي شمال أوروبا إجمالا وألمانيا تحديدا, من الصعوبة التقليدية, إلي الاحتمال المرجح, وسعت ميركل لاحتواء تبعات وفود اللاجئين بدون التراجع الكامل عن سياسة الانفتاح أو حتي تحديد سقف للأعداد التي سيتم استقبالها خلال الفترة المقبلة, فدفعت لسن قوانين لسرعة ترحيل اللاجئين المدانين في وقائع جنائية, خاصة في شمال أفريقيا بعيدا عن دول النزاعات مثل العراق وسوريا, والتأكيد علي العمل دون تكرار تجربة' العمال الزائرين', في إشارة إلي ما كان من تعامل المجتمع الألماني مع العمالة التركية التي وفدت عقب الحرب العالمية الثانية للمساعدة في إعادة إعمار البلاد, دون الالتفاف إلي دمجها وتأهيلها لتحدث اللغة وفهم الثقافة, فظلت منعزلة حتي الجيلين الثاني, والثالث أحيانا. لم تشفع هذه المساعي, فضيق اليمين المتطرف وحتي اليسار الألماني الخناق حول ميركل وحزبها, تشكيكا في فاعلية قراراتها بدءا من فتح الحدود بشكل مطلق دون تنسيق مسبق مع الإتحاد الأوروبي وباقي الدول التي عاشت ضغوطا لوجيستية وأمنية متعددة لتحولها إلي محطات استقبال وانتقال أمام أفواج اللاجئين الذين بلغهم أنباء الكرم الألماني, وأصبح موقف ميركل محفزا إضافيا لرحلة البحر المتوسط. وترجح المؤشرات أن نتائج الانتخابات المحلية المقرر لها13 مارس المقبل لن تكون خالصة لوجه ميركل وتحالفها, وأن صعودا أكيدا لتيارات أقصي اليمين وعلي اليسار أيضا سيكون واضحا. وثالث التوابع لأحداث كولن هو استمرار تعثر جهود ميركل في قيادة عملية إصلاح تشريعي وإجرائي علي مستوي الإتحاد الأوروبي يحقق تعاملا أكثر فاعلية مع أزمة اللجوء حاضرا ومستقبلا. وما جري في كولن وكان له نظير, وإن كان علي نطاق محدود, في دول أوروبية أخري مثل السويد, وسويسرا, ساهم في دعاوي التحرك الوقائي الفردي للدول لحماية أمنها وسيادتها, دون انتظار التنسيق الأوروبي والإجماع علي أساليب التعامل.