دخل المسافر الأمريكي مقصورة بالقطار المتجه إلي ولاية (نبراسكا) الأمريكية، فجلس في المقعد الشاغر بجوار إحدي السيدات، ثم لاحظ أن رجًلا يراقبه متأففًا، متحركًا جيئة وذهابًا، فتبدي له -استبطانًا- أنه يرافق السيدة التي يجلس إلي جوارها، وينتظر منه مغادرته مكانه، فتخطي ذلك الاستبطان. تطلع إلي السيدة التي يجلس إلي جوارها؛ فإذ بها ذات وجه يتسم بالخشونة والقسوة، وأنف سميك، عريض، بشع، لا تهبه الطبيعة؛ بل يقينًا أنه نتيجة اعتداء أو حادث سلبه حقيقته. عكست مرآة الممكن السيدة البولندية والرجل الأمريكي يتحدثان، وقد تبدت طلاقة لغتها الإنجليزية، ولأن لكل سياق حديث بعدين، هما بعد خارجي معلن، وآخر داخلي مستبطن؛ لذا فإن المسافر الأمريكي، استبطن بأنها ضجرت من ذلك الرجل الذي تنقلت معه فترة، فتملكتها رغبة أن تقضي بعض الوقت بصحبة أخري، وتزامنًا مع ما يبصرانه عبر نافذة القطار من مناظر الطبيعة بخصوصيتها المبهرة، حيث يتجلي القمر آخاذًا، كاشفًا تفاصيلها الشائقة، فينفلت الواقع من شروطه إلي حالة من الافتتان المشبع بالانخطاف، عندئذً يصاب كل سرد بالخرس، فإذ بالسيدة البولندية تواصل سردها تفصيلاً دون انقطاع، لكيفية هروبها مع صديقها من تلك الأرض التي يجتاحها قصف غزو الجيش النازي المنفلت؛ لذا مارسا معًا كل الفرص الممكنة للإفلات الشخصي هربًا. صحيح أن ما سردته السيدة عن إعصار عنف الحرب، حجب تأثير ما تراءي عبر نوافذ القطار، مستولدًا لدي المسافر الأمريكي شعورًا مأهولاً بوحشية الحرب، لكن هل صحيح أن الوطن محض أرض، أم بنية لهوية ذاتية لمجتمع، تتعمق إيجابية الوعي به، والمسئولية تجاهه بفيض تواصل الإرادة العامة لمواطنيه، استحقاقًا لمديونية الدفاع عنه، وليس بحثًا عن خلاص شخصي لكل فرد؟ هل السيدة وصديقها أدركا الوعي بسلبية هروبهما من الوطن؟ لا شك أن السيدة البولندية- وفقًا لقصتها- تعاني انهزامًا داخليًا، وعجزًا راهنًا يسود وجودها، نتيجة وعي ضاغط بسلبية هروبها من وطنها، الذي تفلس في مواجهته كل ما يغدو تبريرًا له، حتي نفيها الدائم عبر العالم لا يجدي؛ إذ بهروبها ضنت عليه باستحقاقه كوطن؛ لذا استنجدت بقصة أخري راحت تحكيها للمسافر الأمريكي، كانت أيقونتها أمها ذات الخمسة والستين عامًا، حيث رافقتها مع صديقها معايشة أحداثها، ومعهم مجموعة عمال الأرض التي تملكها الأم وابنتها. بدأت الأحداث عند اقتيادهم من قريتهم بمعرفة أحد ضباط الغزو الألماني، المنوط به تجميع المواطنين من قراهم كلاجئين إلي مخيم قرب محطة القطارات. تطلعت السيدة البولندية إلي الرجل الألماني الذي يقودهم، فتبدي في خمسينيات عمره، يوحي مظهره بالقوة والثقافة، فتصورت أن ثمة ثنائية ذاتية متناقضة يعانيها الرجل، ولدت لديه صراعًا داخليًا مزدوجا في شخصيته، ولما اقتيد إلي الحرب تحت تأثير التسويق الموجه عن التفرد المطلق للقوة الألمانية، راح يتحدي ذاته الأخري، ويطوع قواه ويشحن عواطفه استعدادًا لمعركة، يخدم بها وطنه وحكومته في ظل تفردهما بالقوة المطلقة. هل انتصر عنف القوة في داخله، ودفعه إلي وهج أحضان توأمه غير الشرعي؟ هل التمزق الداخلي ينتج ضعفًا يجعل الشر ممكنًا؟ قاد الألماني المجموعة المتثاقلة مشيًا، يحثهم بفظاظة وقسوة علي سيرهم قدمًا؛ في حين تجلت السيدة ذات الخمسة والستين عامًا، وكأنها تحمل شرعية عزمها وقسوتها، بإصرارها المتواصل بدفعهم إلي عدم التقدم، ثم إذ بها تقف وحولها مجموعتها تهمهم باللغة البولندية (اتركوني وشأني، كل ما أطلبه من العالم هو أن أترك وحدي)، وظلت تكرر صيحتها، لكنها لم تكن غائبة أو مغيبة، بل ماثلة في الحاضر، ومندرجة في مشهديته بوعي التوجه والانتماء. دفعها الألماني إلي الأمام؛ إذ تسببت في الا يحرز أي تقدم، نتيجة الوقوف المتكرر، وترديد كلماتها. لقد كره كلاهما الآخر. أمسك الألماني العجوز وسحبها عبر المياه فتبعه اللاجئون، فاستأنفت العجوز قولها المتكرر(دعوني وشأني)، فدفعها تحت مجموعة أشجار، فتحلق اللاجئون حولها، فأشعل نارًا، وجلس يدخن ويراقبهم، فغلبه النوم. حين استيقظ وجدهم قد رحلوا، فتنامي غضبه، واتجه إلي الطريق الموحل ليجمعهم، وما أن التقاهم حتي وقع شجار بينه والعجوز، التي راحت تتمتم بكلماتها، وفجأة انقضت عليه بكل قوة شرعية الحق الإنساني في الاستقلال، تحقيقًا لصيحتها المتكررة، واختفت يديها في جسده. استمر صراعهما وقتًا ليس قصيرًا، وتبدي الألماني غير ما يوحي به مظهره من قوة، وكأن ثمة احتجاجًا داخليًا يمنعه من توجيه لكمة إلي العجوز. تري هل كيانه الحقيقي كمثقف، ليس مفتوحًا علي القوة كسلطة استباحة قسرية لحقوق الآخرين؟ هل يعني ذلك انتصار كيانه الحقيقي علي غواية القوة كسلطة للسيطرة؟ لذا لم يبادل العجوز الهجوم؛ بل اكتفي بدفعها عنه، وكأن خياره الوحيد محاولة الخلاص دون قوة. هل العجوز قاتلت النازي بجسدها، أم قاتلته بعزمها المتقد يقينًا بأنها مدينة بالدفاع عن وطنها المغتال بشريًا وثقافيًا، والمستباح جغرافيًا، بمواجهتها النازي المغتصب الذي يدفع المواطنين إلي الهجرة خارج وطنهم؟ استلقي المتصارعان علي الأرض إنهاكًا، وتحلق حولهما اللاجئون ينتظرون ما سيحدث؛ فإذ بالمفاجأة تتبدي في تبادل المتصارعين دوريهما المتناقضين، حيث جلس الألماني علي قارعة الطريق، وهو يكرر( اتركوني وشأني، كل ما أريده في الحياة أن أترك وشأني)، في حين أخذت العجوز الأوراق من جيبه، وراحت تقود رفاقها عائدة بهم إلي الوطن، تدفعهم بعنف وقسوة، إذا استشعرت بهم ضجرًا وتراخيًا. لكن السيدة البولندية الساردة للقصة- ولأسباب خافية- غلفت معركة الصراع بالغموض، ومارست قدرًا من الإحراج العقلي علي المسافر الأمريكي، لإقناعه بادعائها أن الصراع كان بين روحيهما، وعند انتهاء الصراع عادتا إلي الجسدين، فإذ بروح أمها العجوز تسكن جسد الألماني، وروح الألماني تسكن جسد أمها، لكن ثمة تتمة للقصة تعري موقف الساردة في علاقتها الانحرافية، بأمها، وأيضًا بوطنها وبنفسها، إذ بعد انتهاء المعركة لملم صديقها أوراقه، وغادر الوطن مصطحبًا إياها معه، ففقدت عزمها علي تدبير وجودها؛ إذ تخلت عن وطنها، وعن أمها العجوز، وتركتها تدفع استحقاق الوطن وحدها، وتخلت عن نفسها عندما سلمت حرية إرادتها لمن قادها إلي هجرة وطنها. صحيح أن كاتب قصة ( الحرب)، هو الأمريكي شروود أندرسون الذي توفي عام 1941، والتي استلهمها من وقائع غزو ألمانيا النازية لبولندا 1939، لكن الصحيح كذلك هو تماسها مع أحداث حاضرنا، فالولايات المتحدة بطابعها الاحتكاري، تمارس أيضًا تسويق تفرد قوتها المطلقة، فتغزو وتخترق أوطانًا بوحوشها المستترة والمعلنة، بالوكالة وبالمرتزقة، كقوة قهر وتلاعب وتدمير منظم ومنفلت، فأحالت دولاً عربية إلي احتراب داخلي، ودفعت مواطنيها للهجرة والشتات خارج أوطانهم، استهدافًا لتقسيمها إلي ما يشبه أرخبيل الجزر المبعثرة، لتنفي عنها معني الدولة والأمة. تري إذا كان العزم ضربًا من التدبير للوجود، وأيضًا مديونية يسددها البشر حتي لو كانت الموت، ألا يعني ذلك أن سلامة الوطن مرهونة بفعالية حضور عزم مواطنيه مواجهة وصمودًا؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى