«عادل عصمت» أحد الموهوبين، المخلصين لعصاميتهم الإبداعية.ركز على مشروعه الأدبى بدأب، من خطواته الأولى المُتهيِّبَة لمسئولية الإبداع، حتى اكتسب دُربته، وتمكن من آلياته، وشغفته تلك الومضات الباهرة، التى لا يدركها إلَّا العارفون بخفايا الكتابة، ومشقتها، فبات يتقدم بقفزات واثقة، ويتمتع بسمات خاصة. من روايته «الرجل العارى»، إلى «أيام النوافذ الزرقاء» و«حياة مستقرة»، و«هاجس موت»، وكتاب «ناس وأماكن»، ومجموعته الأخيرة «قصاصات»، حتى أوصلنا إلى «حكايات يوسف تادرس» هذه. «يوسف تادرس» فنان مسيحى من طنطا، أحب الرسم من طفولته، لكنه عجز عن استكمال دراسته فى «فنون جميلة» بالاسكندرية، والتحق بكلية أخرى أهلته للعمل بالتدريس، ومن وقتها عانى اغترابا أليما، ولاحقه الواقع بقسوة، فى جميع التفاصيل، من زملاء فضوليين، إلى زوجة نِكَدِية ، إلى مجتمع يُفرِّق بين المسلم والمسيحى بعنف لم يعهده أبدا، والأنكي.. كانت تلك الرقابة الأخلاقية على تصرفاته ومشاعره، ونقله إلى مناطق نائية كعقاب على أحد حقوقه فى الحياة. جعلنا «عصمت» نكابد كل ما عاناه «يوسف تادرس»، ونكره كل من عذبوه، ونبحث معه عن خلاص، وجده أخيرا فيما بدأ به، فى «الرسم» الذى فجَّر طاقاته الكامنة، وأعاده الفن إلى اتساقه القديم، بعيدا عن كل آلام الواقع المقيمة. { لم استهللت فصول روايتك بالمفتتح المتكرر: «يقول يوسف تادرس»؟ {{ هذه العبارة البسيطة «يقول يوسف تادرس» هى السر. منذ فترة طويلة تمنيت أن أكتب عن صديق لى من أيام الجامعة، كان موهوبا فى الرسم والكتابة، وكان ينتظره مستقبل كبير، لكن ظروفه أخذته بعيدا. ولم أكن أستطيع أن أكتبها بضمير المتكلم. لن أكون مستريحا وسأشعر بمسافة لأنها ليست حياتي، حتى جاءت تلك العبارة البسيطة التى تشبه النغمة الموسيقية، مثلها مثل: «يقول الراوى ياسادة ياكرام» ومنحتنى الضميرين معا، ضمير المتكلم وضمير الغائب. { ألم يكن شاقا عليك كتابة رواية كاملة بلسان مسيحي، تختلف حياته عنك فى أمور جوهرية، كالنشأة والتأثيرات الوجدانية، أم أن التداخل المعيشى فى مجتمعنا سهَّل عليك المسألة؟ وهل استعنت بالقراءة أو الاستشارة؟ {{ كنت خائفا فعلا أن تفلت منى الأمور وأخطئ فى بعض الهنات الصغيرة، وبعدما أنهيت المخطوطة أعطيتها لأحد أصدقائى المقربين لأطمئن أننى لم أرتكب خطأ. لأن الكتابة عن مناخ مختلف عما تربيت عليه وتشربته صعبة، لكن معايشتى لأصدقائي، وسماعى حكاياتهم وحضورى معهم أعياد الميلاد والزواج فى الكنيسة، سهَّل عليَّ الأمر، لقد عشت معهم ودخلت بيوتهم، يبدو أننى مثل يوسف تادرس أعتبر الاختلاف فى الدين يشبه اختلاف الملامح والأسماء ولن يكون للحياة طعم إن أصبح لنا نفس الملامح والأسماء والدين. { يدور المتلقى عبر الرواية داخل نفس «يوسف تادرس» المعذبة، وتلافيف مجتمع تحكمه قيم بالغة التركيب، فهل قدر الأدب أن يتعقب هذه الحيرة الإنسانية أبدا، بين عذاب الذات وقيود الآخر؟ {{ الرواية هى فن تأمل الزمن، ما الذى يَصنع بنا وماذا نَصنع به، وكما تعرف: السعداء لا يحتاجون من يكتب عنهم، أما غالبية البشر، ففى حيرة على الدوام، وهذه الحيرة هى مادة الرواية، من لا يصيبه الفزع أمام الموت، أمام تغير الحياة وتحولها من حال إلى حال، أمام فكرة النمو نفسها، أين كنت وأين أصبحت، وما الذى حدث حتى أصبحت على هذا النحو؟ بالإضافة إلى معضلات الحب والكراهية والصراع اليومى من أجل الوجود. لا أعرف عملاً أدبياً كبيراً لا يتخذ معاناة البشر مادة له. { انتهى «يوسف تادرس» إلى أن الخلاص مرهون بأن يُقدم كل فرد نصيبه من المعاناة، ومعاناته كانت كبيرة، وجاهد لإنقاذ روحه، لكن الواقع أمعن فى ملاحقته، فهل ثمَّة سبيل أمام الإنسان بتقديرك للإفلات من تلك المراوحة المؤلمة دائما بين المعاناة والخلاص؟ {{ الإنسان يجد خلاصه الشخصى عبر معاناته، وعبر ايجاد غاية لحياته الشخصية. فى قصة «قشتمر» لنجيب محفوظ، يعيش حمادة يسرى الحلوانى حياة خالية من أية منغصات، ابن ذوات يملك مالا بلا حصر ولا يريد أن يعمل أو يلتزم بأى التزامات اجتماعية، ومع ذلك فحياته شقية, لذلك السبب الذى يظنه الناس سبب السعادة، السبيل المتاح لنا جميعا ألا تسحقنا المعاناة، بل نتعامل معها كأنها خطوة من خطوات النضج والوصول إلى الخلاص، فى ظنى أن يوسف تادرس واصل رحلته بسبب قدرته على مطاردة فكرته والعمل على تحقيقها، فكرته عن الفن ورغبته فى الإبداع مصدر قوته. لم تتمكن المعاناة من سحقه، أما فكرة الخلاص وتمنى حياة خالية من الألم فهو أمر مثالى صرف لا يوجد فى الواقع. { أعمالك كلها مشحونة بالحزن والأسي، والموت تقريبا قاسم مشترك فيها، فهل لهما علاقة بتجارب ذاتية تنسحب بلا قصد على أعمالك، أم أنها عمدية إبداعية واعية، ترى أنها تضفى عمقا على شخوصك وعوالمهم؟ {{ ليس أمرا مقصودا بالمرة، أجد نفسى متعلقا بمثل هذه التجارب الحدّية، ربما لأن حياتى رتيبة جدا، وعلى منوال واحد كأنها يوم يكرر نفسه، أجد نفسى مدفوعا إلى تأمل اللحظات الفاصلة. ثم هناك حيرتى من فكرة الزوال وهى أصل فكرة الزمن، كل ما يحدث يمر بعيدا. إلى أين يرحل؟ وهل من سبيل إلى استعادته؟ أظن أن كل حياة هى نسيج من الحزن والفرح، والشقاء والمتعة، وكونى أركز فى كتابتى على لحظات الحزن والأسى قد يكون راجعا إلى ميل شخصى وليس لاعتبارات العمق الفني، القلم يتحرر فى تلك اللحظة. كان بودى أن أكتب كتابة مرحة، لكن ما باليد حيلة، الطبيعة تحكم. { لكن العجيب أن ابهجة ماب تظل كامنة دائما وسط الأحزان المفعمة بها أعمالك، فكيف يحمل الشئ نقيضه بهذه المحبة والسلاسة؟ {{ نحن نحب صوت الناى ياصديقي، رغم حزنه, ونطرب له. ربما السر فى الفن، لا أعرف بصراحة. { وبجانب المبهجات، نجد لغتك العميقة البسيطة، منضبطة تماما، وتُسهّل المعانى على المتلقي، وتحقق له متعة خفية ربما لايتنبه البعض لها أثناء القراءة لانشغاله بالموضوع، فهل هذا يحدث عفو الخاطر، أم يتطلب مجهودا وعناية؟ {{ أنت تعرف أن البدايات هى فترة العثرات والتعرف على نفسك وأسلوبك. فى البداية تعبت كثيرا فى التقليد وفى تأمل كتابات الآخرين, احترت طويلا أمام التعبير عن أفكاري، ولكن بمرور الوقت أخذت الأمور تصبح أكثر سهولة، أتحدث هنا عن الأسلوب واللغة، لكن تظل مشكلات الشكل الفنى تثير الكثير من الصعوبة. تعلمت أن أكتب كما أتكلم وأفكر، وهذا يتطلب إنصاتا وتوقفا عند أى بادرة تسمع فيها صدى للتحذلق أو تسمع صوتا زائفا، أحاول وسأظل أحاول، إنها متعة الكتابة، العمل على اللغة والشكل الفني. { لأى مديَ تخفَّى «عادل عصمت» الذى عانى اخفاقات مؤلمة، بين حيرة الإبداع والطموح، ومشقات المعيشة المُرهقة، خلف يوسف تادرس؟ {{ الكاتب يكتب قصته هو مهما تخفَّى خلف شخوصه، والقرب بينى وبين «يوسف تادرس» من ناحيتين: أنه يحاول الإبداع، وكونه يعمل فى مؤسسة التعليم، وتجربة التكون الأولى فيها الكثير من الشبه بين نشأتى ونشأته. لقد عانيت مثله من تعاليم «جماعة عنخ» كما سميتها فى الرواية، وسأقول لك أمرا، حكايات يوسف تادرس هى روايةعن الميلاد، عن النمو ومشاكله، وهو أمر لا يختلف كثيرا عن ظهور برعم، يمر بنفس المراحل، من البذرة والنمو السرى بما فيه من التحولات التى تحدث فى الداخل حتى تظهر النبتة، وقد ساعدتنى خبرتى فى الكتابة فى فهم خبرة المبدع فى الفنون البصرية, خاصة أننى كنت أحيانا شاهدا على عملية تشكل لوحات ، وبالذات تجربة رسم البورتريه. { لماذا رأى يوسف أن سفر ابنه ميشيل إلى أمريكا يمثل حلاً، وهو المقاتل الذى تحمَّل كل مشقات الواقع، وهل هذا رأى عادل عصمت أيضا، أم أن رؤية البطل منفصلة عن كاتبه؟ {{ «يوسف تادرس» تعِب مثلما تعب عادل عصمت، لفظ «المقاتل» قد يصلح لوصف «يوسف» أثناء عمله على فنه, أما فى حياته فكان دائم الهروب. من يتحمل أوضاعا مثل أوضاع حياتنا بطل، مجرد التحمل بطولة. وأظن لا يوسف تاردس ولا كاتب الرواية أبطال.