مفكر مشاغب, أدرجت السلطات اسمه في القائمة السوداء, وزجت به في السجن بتهم ملفقة, لكنه لم يتحول أو يتبدل. وعندما ألقوا بالفيلسوف الفرنسي فولتير في السجن عام1726, تفتق ذهنهم عن عقد صفقة معه, وساوموه بين إطلاق سراحه مقابل مغادرته فرنسا إلي المنفي في بريطانيا, ووافق, ورحل, وخلب لبه النظام السياسي البريطاني آنذاك, فقد كان البرلمان يمارس مهامه, بينما كانت حرية الفكر والتعبير في أوج ازدهارها. ولما سمحت له سلطات بلاده بالعودة, عكف علي تأليف كتابه رسائل إنجليزية, أشاد فيها بالنظام البرلماني والسياسي في بريطانيا, وأهدي نسخا خطية منه إلي أصدقائه, فلم يكن يعتزم نشره, اتقاء غضب السلطات. لكن أحد الناشرين تمكن من الحصول علي نسخة من الكتاب السري, وبادر بنشره, دون أن يعلم فولتير, وتهافت عليه القراء, وساورت المخاوف الفيلسوف, واضطر للهرب من باريس, والانزواء في قرية صغيرة نائية. ويقول مؤرخ الفلسفة والحضارة ويل ديورانت إن رسائل فولتير هذه كانت بمثابة إطلالة فجر الثورة الفرنسية عام.1789 عظيم, لكن الأروع حقا أن فولتير تمكن في رحاب خلوته الريفية من أن يبلور فلسفته السياسية والاجتماعية, وكانت مقدمتها المنطقية الحرية والتسامح الديني والفكري واحترام الرأي والرأي الآخر, فهو القائل: إني أخالفك رأيك, ولكني أدافع حتي الموت عن حقك في إبدائه. وهكذا أشاع فولتير وكوكبة من المفكرين ثقافة التنوير في فرنسا, ورفع راية العقل والعدل والحرية في القرن الثامن عشر, ولم يكن الكاتب والروائي العظيم فيكتور هوجو مبالغا عندما قال إن فولتير يمثل القرن الثامن عشر, في أبدع تجلياته الفكرية. {{{ وقد شاء القدر أن يموت الفيلسوف قبل أحد عشر عاما من تفجر الثورة الفرنسية, وهي ثورة أشعلها بأفكاره, ولذلك ردت له اعتباره عندما أعيد دفن رفاته في مقبرة العظماء, وأضحي أيقونة يحتفل أهل فرنسا بذكري ميلاده وموته بكل إجلال. لكن الفيلسوف, في الوقت الذي تتأهب فيه فرنسا للاحتفال بالذكري الرابعة والثلاثين بعد المائة لموته في30 مايو المقبل2012, ربما يكدر صفوه تلك الغيوم التي تتلبد في سماء البلاد بسبب صعود قوي اليمين المتطرف علي نحو غير مسبق في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فقد انتزعت ماريان لوبان مرشحة اليمين المتطرف نحو ثماني عشرة في المائة من أصوات الناخبين في الجولة الأولي, صحيح أنها خرجت من سباق الرئاسة, ولكن كتلة الأصوات التي فازت بها, قد ترجح من هو المرشح للفوز في الجولة الحاسمة في6 مايو المقبل. وكانت الظنون قد تحلقت حول احتمال مثير للقلق يرشح ماريان لمنافسة ساركوزي الرئيس المنتهية ولايته, وكانت قد تسلمت في يناير2011 زعامة اليمين المتطرف من والدها جان ماري لوبان الذي تقاعد بسبب تقدم سنه, وحاولت إضفاء لمسة مراوغة علي سياساته, ولذلك فسرت تصديها لما تسميه أسلمة فرنسا, باعتباره مناقضا للعلمانية, حتي تفلت من تهمة العنصرية. وأبلت ماريان بلاء حسنا في الانتخابات المحلية في أبريل2011, واستعرت المنافسة بينها وبين ساركوزي حول استقطاب اليمين المتطرف, وهو ما بدا واضحا في الانتخابات الرئاسية. وإذا كانت الجولة الأولي لهذه الانتخابات في22 أبريل2012 قد رشحت نتائجها فرنسوا هولاند المرشح الاشتراكي لإمكان الفوز بالرئاسة, إلا أن أصوات اليمين المتطرف قد تحسم من هو الرئيس المقبل. {{{ ولم يجد فولتير مفرا للنجاة من عاصفة عدم التسامح واقتلاع الآخر سوي بأن يرحل من باريس مرة ثانية إلي تلك القرية النائية عله يجد مخرجا آمنا. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي