حدث فى غابتنا الرغيدة، ذات العلاقات الوطيدة، والأمجاد التليدة، أن ظهر فيها فى يوم من الأيام، بدعة لم يسمع بها أحد من الأنام، ولا استوعبها من صلى وقام، ولا من حج وصام.. بدعة ابتدعها لنا القرد الهمام، وقال إيه.. سمّاها«الإعلام». وكنا قبل ورود تلك الغاغة المهولة، التى أطلقنا عليها«أمّنا الغولة»، نتواصل معا بكل سهولة، دون بروتوكولات أو مواثيق، ولا ثرثرة أو رغى أو نقيق. وأتى لنا القرد المظفر، بحشود من الغجر، سماهم الغفر، وألبسهم أخضر فى أخضر، وعلى الرأس طرطور أحمر. وأمرهم القرد المهاب، فحلقوا أدمغتهم والأشناب، وحملوا الرباب، وعلّق كل واحد منهم فى رقبته طبلة، وأمسكوا بين الأكف مقلاعا ونبلة. وكان لكل منهم ذيل، لا يخلعه نهارا ولا فى الليل، فصارت مناظرهم آخر غرابة، وأدهشوا كل حيوانات الغابة. وفى البدء، كنا نموت عليهم من الضحك، إذ اعتقدناهم مهرجين من السيرك، فكنا نزيّط عليهم ونصفّر، وننكّت ونتمسخر، ونصرخ فيهم ونتندّر. غير أن الوحيد فينا الذى اعتراه القلق، كان صاحبنا الحمار ذو الغلق. فلّما استوضحناه عن سبب حيرته، وما السر وراء أزمته، نظر إلينا الحمار، بكل احتقار، ونهق فى وجوهنا نهقته الشهيرة، ثم همس وكله حيرة: اعلموا يا أبناء المغفلين، أن أيامكم يا مساكين، ستكون من الآن فصاعدا، طينا فوقه طين. ومع مرور الأيام، أغرقونا فى الأوهام، فصرنا لا ننام، ونسهر ليلاتى حول المطبلاتية، نستمع لترهاتهم المحكيّة، ونوادرهم المسلية، وعلمونا الرقص وهز الوسط، والقفز والنّط، والمشى على أربع، كأننا كلاب أو قطط. وكنا من بين كل ألف كلمة وكلمة، لا نفهم ولا كلمة، وصار حديثنا شعارات وغمغمات، وغرقنا فى التفاهات، فتاهت منّا العقول، وصرنا كالعجول، نقول فلا نقول، ونعيد ثم نزيد، فلا نفهم بالضبط ماذا نريد. وتداخلت فى ضمائرنا الحقائق، السابق منها كما اللاحق.. وهكذا عشنا فى غيبوبة، وبدت لكل حيوان منا عيوب الآخرين، قبل أن يعرف عيوبه. وما إن مرّت علينا الأشهر، حتى خرج علينا القرد الأغبر، يتشامخ و يتبختر، ويشخط ويتأمّر. وقال بصوت مريع: اعلموا يا جرابيع، يا حيوانات القطيع، أن هؤلاء المطبلاتية، هم سادة البرية، فإن أمروكم بأمر فأطيعوهم، وإذا طلبوا بيعتكم فبايعوهم، وإياكم إياكم أن تردوا لهم أى مطلوب، حتى لو ضربوكم بالمركوب، فاحفظوا كل كلامهم عن ظهر قلب، وأى معترض منكم أو مثير للشغب، فإنه كلب وأبوه كلب. وليس له عندى سوى الحرق باللهب. وهكذا صار المطبلاتية سادة الغابة، واستأسدوا علينا نحن أبناء الغلابة. فلّما أن توجهنا للحمار المثقف، نبكى ونتشحتف، وننفنف ونتفتف، ونطلب منه النصيحة والمشورة، بصق فى وجوهنا المقهورة، ونهق فينا من جديد، نهقته المشهورة، وقال كلمته المأثورة: لقد حذرتكم منذ البداية، وها أنتم تشهدون النهاية، ولتعلموا يا أحامق، أن من يعطى عقله لإعلامىّ منافق، أو لمدّع متحذلق صاحب قلم، لا يلومن إلّا نفسه، إذا سحقوه بالنعال وبالجزم!