رغم الظروف الصعبة.. فقد نجحت الحكومة الفرنسية فى تنظيم مؤتمر «قمة المناخ» فى موعده المقرر، وبالبرنامج المعلن نفسه، ولم يكن للتحديات الأمنية أى أثر فى أن يقام المؤتمر بالزخم المتوقع ذاته، إذ شارك فيه آلاف المشاركين ما بين مفاوضين حكوميين وأعضاء بالمجتمع المدنى ورجال مال واستثمار، ورجال أعمال وإعلام، من جميع أنحاء الأرض. لم نشعر بأن هناك إجراءات أمنية مبالغ فيها، فى دخول قاعات المؤتمر أو التسجيل فيه، ولم تُواجه التظاهرات أو المسيرات، التى نظمت من أجل المناخ، بأى إجراءات أمنية متوترة. وفى باريس نفسها وضاحية بورجيه التى أقيم فيها المؤتمر لم نشهد زحاما غير عادى لرجال الأمن أو معاملة غير اعتيادية للمترددين عليه، بل إن دخول فرنسا نفسها كان أمرا فى غاية اليسر والانضباط، ويمكن القول إن أعمال التخريب التى سبقت المؤتمر بأيام ربما زادت من عزم الحكومة الفرنسية على إنجاحه. نجح المؤتمر، ولكن.. هل نجحت قضية المناخ نفسها فى الوصول إلى بر الأمان بعد سنوات طويلة من الجدل؟ حتى كتابة هذه السطور لا يمكن لأحد أن يتنبأ بما سيئول إليه مسعى الدول المشاركة فى الوصول إلى اتفاق جديد.. فهناك من يرى أنه يجب أن يستلهم روح وأهداف الاتفاقية الدولية لتغير المناخ الصادرة فى 1992، وهناك من يرى أن الاتفاقية الجديدة يجب أن تقوم على أنقاض الاتفاقية القديمة، والبروتوكول الخاص بها، المعروف ببروتوكول «كيوتو»، الموقع عام 1997. وقد سبق هذا المؤتمر - الذى يحمل رقم 21 عشرات الاجتماعات التحضيرية التى سعت إلى رسم مستقبل، ما زال يلفه الكثير من الغموض، حول المناخ، وكلها استخدمت نبرة التفاؤل، واتفقت على أن الهدف هو تخفيض انبعاثات الكربون، لتقليل درجة حرارة الغلاف الجوى بين 1.5 إلى درجتين، ولكن الخلاف كان، ولا يزال، حول التمويل، والإلزام بتحديد المسئوليات. التمويل لا خلاف عليه.. فقد أعلنت الولاياتالمتحدة تخصيص نحو مائة مليار دولار سنويا ل«صندوق المناخ» الذى سيمول مشروعات التكيف، والتخفيف من الانبعاثات الكربونية.. أما الإلزام فتصارعت وجهات النظر حول أن يكون الاتفاق الجديد ملزما «قانونيا» للدول، وبناء عليه تقدم كل دولة خطتها، وتعاقب إذا لم تلتزم بها، أم يكون الإلزام «سياسيا» فقط؟ أما تحديد المسئوليات فهو نقطة الخلاف الرئيسية حتى الآن، فالدول النامية تستمسك بما انتهى إليه بروتوكول «كيوتو» من إلزام الدول الغنية بدفع فاتورة إصلاح المناخ باعتبارها المتسبب الأكبر فى التلوث، وأن مسئولية حماية المناخ «مشتركة»، ولكن متباينة فى توزيع التكاليف، بينما تستمسك الدول الصناعية بالمساواة بين مختلف الأطراف، خاصة أن دولا مثل الصين والهند وتركيا والبرازيل هى دول لها اقتصاد قوي، لكنها مسببة للتلوث، ومصنفة فى الوقت نفسه، تحت وصف «الدول النامية». عموما، جاء المؤتمر، ولمصر دور أكبر حجما وأشد تأثيرا عن ذى قبل، فالرئيس عبد الفتاح السيسى اختير ليكون منسقا للجنة الرؤساء الأفارقة لتغير المناخ، ومتحدثا باسمها، والدكتور خالد فهمي، وزير البيئة، هو فى الوقت نفسه رئيس مجلس وزراء البيئة الأفارقة، لذا كانت العيون تتطلع إلى أن يؤدى المصريون دورا حاسما، ومؤثرا. وفى اجتماعات الجزء الوزارى رفيع المستوى لوضع بنود الاتفاقية الجديدة لتغير المناخ.. رأس الدكتور خالد فهمى الاجتماع، بهدف بلورة موقف إفريقى موحد فى المفاوضات، ووضع رؤية مشتركة تلبى طموحات الدول الإفريقية، فى الحصول على الدعم اللازم للتكيف مع آثار تغير المناخ، ونقل التكنولوجيا الخضراء، وترسيخ مبدأ المسئولية المشتركة، والمتباينة - فى الوقت نفسه - بين الدول الغنية، والنامية. وفى كلمته قال الوزير: نحن لا نحتاج إلى التذكير بأن قارتنا تعيش تحت تهديد جدى مع تغير المناخ يهدد جهود التنمية المستدامة وما يلزمها من سبل العيش، وأن الإحصاءات والبيانات لدينا صارخة بما تضمه من حقائق علمية ترسم صورة قاتمة جدا للقارة، مما يعنى أن إفريقيا هى الخاسر الأكبر إذا لم يتم التعامل الجاد مع تحدى تغير المناخ. وأكد فهمى أن الاتفاق الجديد المزمع إصداره ينبغى أن يكون فى إطار الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ، ومحققا لأهدافها، واضعا أمام الدول الإفريقية عرضا كاملا لكل البنود المختلف عليها فى الاتفاقية الجديدة، ومشيرا إلى أن هناك ملحوظات حول ما يتعارض مع مصالح الدول الإفريقية، ومع ذلك فإن هناك ما يمكن أن يبنى عليه، وفق قوله. كما التقى فهمى فى اجتماع مغلق بان كى مون،تالسكرتير العام للأمم المتحدة، وعلى أثره قال الوزير إن السكرتير العام أراد أن يوجه رسالة شكر وتقدير لإفريقيا لما أظهرته من وحدة فى الصف، فكان لها صوت عال ومسموع، كما وجه الشكر لمصر لجهدها فى تعبئة الجهود على الصعيد الإفريقي، ولجهدها فى إطلاق المبادرتين الإفريقيتين الخاصتين بالتكيف والطاقة الجديدة والمتجددة. وأكد «بان كى مون» لخالد فهمى أيضا أن باريس ليست نهاية المطاف فيما يخص تغير المناخ، وأن هناك مرحلة «ما بعد باريس»، لأن الاتفاق الذى توصل المفاوضون إليه هو اتفاق «متحرك»، وليس ثابتا، وهو يهدف إلى تخفيض الحرارة بمقدار 1.5 درجة، ولو نجح العالم فى تخفيضه درجتين فسيكون على الطريق الصحيح، وهناك قناعة فى الاتفاقية الجديدة بأن تكون هناك موازنة بين التخفيف والتكيف، كما أن هناك اقتناعا بأن مائة مليار دولار سنويا كتمويل لمشروعات المناخ هو مبلغ مقبول. وأوضح الوزير أنه ما زالت هناك جوانب كثيرة من الاتفاقية الجديدة بحاجة إلى تفاوض، وأن مساحة الخيارات مرنة أمام المفاوضين، وأن هذه الاتفاقية أكثر تشعبا وتنوعا عن اتفاقية «كيوتو»، التى تحدثت عن الانبعاثات فقط. وأكد فهمى أن المبادرتين اللتين أطلقهما الرئيس عبدالفتاح السيسى بالنيابة عن إفريقيا قد تمت الموافقة عليهما بالفعل، وأن بعض الدول الأوروبية تقدم بعروض لدعم وتمويل مبادرة الطاقة الجديدة، ومنها فرنسا التى تقدمت بمليارى دولار، وألمانيا التى تقدمت بثلاثة مليارات دولار، مما يعنى أن هذه المبادرة - التى تحتاج إلى عشرة مليارات دولار - يمكن العمل من خلالها فورا لتوافر نصف التمويل. سكان الغابات من بين مئات الأنشطة الجانبية التى أقيمت على هامش المؤتمر.. نظمت جماعات تنتسب «للسكان الأصليين»، و«سكان الغابات» يوما حافلا بالتظاهرات، بهدف لفت الانتباه إلى قضاياهم، وتذكير العالم بالوعود التى قطعها على نفسه بوضع الإجراءات الملحة عين الاعتبار، من أجل وقف تدهور الغابات وغرق الجزر الصغرى، نتيجة تغير المناخ، وهى موئل هؤلاء السكان لإنقاذ مصائرهم. وتجول زعماء السكان الأصليون من الأمازون وحوض الكونغو وإندونيسيا وأمريكا الوسطى فى رحلة بحرية بنهر السين فى زورق يحمل الشعارات التى يرفعونها فى إطار حملة دولية تعيد تذكير الأممالمتحدة بأن هؤلاء السكان هم خير حراس للغابات، والموارد الطبيعية، وبأنهم بحاجة إلى الدعم. وقد جاءت الحملة متزامنة مع دراسة جديدة نشرت هذا الأسبوع فى COP21 أكدت أن الغابات هى أراضى السكان الأصليين، وأنها نجحت فى تخزين 20 فى المئة أقل من الكربون فى الغابات الاستوائية بجميع أنحاء العالم. كما تظاهر ممثلو السكان الأصليون وسكان الغابات ضد ما سموه إهدارا لحقوقهم الإنسانية فى البنود المقترحة للاتفاق الجديد، وقالوا إن حقوقهم تنتهك أيضا من خلال التوسع فى المشروعات الرامية إلى الحد من تغير المناخ أو المشروعات الخضراء، ومنها السدود الكهرومائية التى تلتهم أرضهم، وتغير من أسلوب حياتهم، وتؤثر على مواردهم، وقالوا إن الاتفاق الجديد إذا كان ملزما قانونيا للدول فإنه قد يعرضهم للضياع. المجتمع المدني وبينما كانت المفاوضات الرسمية تأخذ مجراها فى الجلسات المغلقة، وجه بعض الناشطين من المجتمع المدنى رسالة تحذير قوية للحكومات بضرورة إيقاف الاعتماد على الوقود التقليدي، واستخدام الطاقة الجديدة والمتجددة بشكل كامل. وفى تحرّك قام به ناشطون من (إندى أكت)، وهى منظمة معنية بالمناخ فى المنطقة العربية، حمل الناشطون لافتة مكتوبا عليها: «المجتمع المدنى العربى يدعو الدول العربية إلى الانتقال إلى استخدام الطاقة المتجدّدة بنسبة 100%». وقال سعيد شكري، ممثّل شمال إفريقيا فى التحالف الإفريقى لعدالة المناخ (PACJA)، ومنسّق شبكة العمل المناخى فى العالم العربي: نطلب من الدول العربية الرائدة فى مجال الطاقة المتجدّدة أن تعكس ذلك فى المفاوضات، وأن تأخذ زمام المبادرة فى المضى قدماً للتوصّل إلى اتفاق طموح. وقالت صفاء الجيوسي، مسئولة حملة المناخ والطاقة فى منظمة «إندى أكت»، ومنسّقة شبكة العمل المناخى فى العالم العربي: «يوفّر مؤتمر باريس الفرصة لقادتنا من أجل اتخاذ إجراءات حاسمة مثل الاستثمار فى الطاقة النظيفة، وإزالة العقبات القانونية والهيكلية، من خلال وضع خطط وطنية مفصّلة للطاقة، من شأنها تسهيل الانتقال السريع إلى نظام الطاقة المتجددة بنسبة 100%، وهذا أمر ضرورى إذا أردنا الإبقاء على متوسط ارتفاع درجات الحرارة، بما لا يزيد على 1.5 درجة مئوية».